تتعدد أسباب المتعة في مسرحية «يعيش يعيش» التي عرضت للمرة الأولى عام 1970، بداية من صوت السيدة فيروز بطابعه الفريد وغنائيته الساحرة، وموسيقى وأشعار الأخوين رحباني بنصاعة أسلوبهما، والحوار الدرامي الذي لا يخلو من القص الممتع، ولا يقل أهمية عن الأغاني الجميلة، بالإضافة إلى الكثير من الأصوات الأخرى المرموقة جميعها، مثل المطرب نصري شمس الدين، الذي عندما نستمع إليه نقول وحده لبنان يستطيع أن يهبنا مثل هذا الصوت، وتبقى لهذه المسرحية الغنائية، التي قطعت مسافة كبيرة في الزمن، قيمتها الفنية الكبرى من ناحية الغناء، وشدة الثراء الموسيقي، وإحكام البناء المسرحي، وعلى المستوى الفكري، نجد أنها لا تزال جديدة لم يطلها القدم والبلى بعد، لأنها مستمدة من واقع لا يتغير، يتم فقط تحديث شكله، وإعادة خلقه في صور مختلفة، لكن يظل جوهره ثابتا لا يعرف التحول، وعلى الرغم من انتهاء زمن التنفيس السياسي، حيث لم تعد السخرية تلطف الألم، وباتت الأهوال أعظم من الضحكات، والعبارات التي كانت قوية آنذاك وتجلب التصفيق المدوي، ربما لن تثير الإحساس ذاته الآن في نفوس البعض، الذين صاروا أقل براءة، بعد أن رأوا بأعينهم وجه الحقيقة القبيح الذي لا يحتمل، لكن تظل لعبارات أخرى القدرة على إثارة الذهن والتفكير في أسئلة لابد من الإجابة عليها، ولبعضها يكون أثر الحكمة الخالدة الصالحة لكل زمان ومكان، أما الموسيقى والغناء فهما بطبيعة الحال أنقى وأصفى من التعكير السياسي، ويعرفان طريقهما جيدا نحو الخلود.
في شكل دائري تبدأ المسرحية بانقلاب على الامبراطور، ويكون لحن الابتداء أشبه بالمارش العسكري، تتخلله فواصل كلامية، ومقاطع من إذاعة بيان الانقلاب، ثم يختتم العمل بانقلاب امبراطوري على الانقلاب الأول، ويكون الانتهاء بلحن «الرعيان بوادي والقطعان بوادي» المسالم اللطيف بإيقاعاته الراقصة، والهادئة، في الوقت نفسه، الذي تغنيه السيدة فيروز أو هيفا بطلة العمل، التي تعلم يقينا أن الكراسي هي الشغل الشاغل للحكام على اختلاف أنواعهم، وأنها لديهم أهم من البشر، وتخلو المسرحية من قصة الحب وينعدم وجود الثنائي الغرامي، فلا تقع هيفا في غرام الامبراطور الهارب المخلوع، والمختبئ في دكان جدها بو ديب، تحت اسم برهوم، وحكاية الزوج الهارب من البوليس لأنه اعتدى على زوجته بالضرب، ورغم جلساتهما معا وتحدثهما في أمور السياسة وأحوال الناس، إلا أن الأمر لا يتعدى حدود الصداقة، وعندما تغني السيدة فيروز أغنية شادي الشهيرة، يكون ذلك من أجل أن تخبره عن قصة الحب التي عاشتها في زمن الطفولة، ويكون كلامها عن شادي بعد انتهاء الأغنية رائعا أيضا عندما تقول «لما بيمشي نهر الحقد بياخد بدربه ناس كتير ما لهن دخل بالموضوع»، و»بسأل حالي اللي بيندفع حقه ناس يا ترى هو أغلى من الناس؟»، وكم هو ممتع إلقاء السيدة فيروز عندما تتحدث، وما أجمل جرس لهجتها اللبنانية، حيث تتركز قدراتها التمثيلية في صوتها بدرجة كبيرة، ونشعر أحيانا بأنها تغني لا تتكلم، بفعل التنغيم وتلوين الكلام، مثل هذا المقطع الطويل الذي تقول فيه: «الامبراطور ما بقى دارج شكله، لحية، شوارب، تاج، لابس فوق تيابه تياب، يقلب الاسطوانة، يمشي ع الموضة، تحرر، تمرد، حرية، عدالة، يصير زلمة متل الزلم، وينزل يعارك حاجي قاعد ع ها العرش متل القاعد بالمتحف» كما أنها تستطيع إلقاء العبارات المضحكة مع المحافظة على الوقار التام.
وتعد «يعيش يعيش» من الأعمال ذات الأهمية الكبرى في عالم الموسيقى والمسرح والغناء، ونلاحظ الاعتناء الكبير بالحوار الدرامي، بشكل لا يقل عن الاهتمام بصياغة الأغنيات، وفي أحيان كثيرة نجد أن الصراع الدرامي يتطور من خلال الحوار لا من خلال الموسيقى، وتكون الكلمات التي تنطق بها الشخصيات مستقاة من صميم الواقع، وتبرز الاختلافات بين كل شخصية وأخرى، ومن خلال الألفاظ والتعبيرات يتشكل بناء المسرحية، ويتضح المضمون الفكري متعدد الدلالات، بالإضافة إلى الكثير من الضربات اللماحة الذكية على أوتار الواقع، أما الدراما الموسيقية فهي مزيج من اللعب المسرحي المتقن، والغناء السحري، والإضافة الموسيقية إلى الخيال الشعري القصصي، بأسلوب يجمع بين البساطة والروعة، هو الأسلوب الرحباني الذي يمثل لغة خاصة مكتملة صفاتها السمو والرفعة والبراعة الفائقة، وتتميز موسيقى الأخوين رحباني بشكل عام بالميلودية الجميلة، التي تجذب المستمع إليها على الفور، وفي مسرحية «يعيش يعيش» لا يتوقف التدفق الموسيقي الهائل منذ لحن البداية بايقاعه اللاهث، حتى لحن النهاية الجزل الجميل، وتتنوع الأنماط الغنائية المليئة بخيال الابتكار الفني، كما تتعدد الخطوط الميلودية والإيقاعات الشرقية الحارة التي لا تقاوم، وتتجلى القدرة على خلق الصور الموسيقية كما في أغنية «يا رايح ع كفرحالا»، والألحان الدالة كما في الدخول الموسيقي المهيب الذي يكون معبرا عن شخصية المهرب الحية المثيرة التي تجمع بين صفات البطولة والإجرام، وتكثر الألحان التعبيرية مثل لحن الأرجيلة ولحن الصحافة، كما يوجد الموال وألحان الدبكة البديعة مثل «وفد وفد» و «يا شاويش الكراكون» ويغلب الإيقاع الحاد السريع والدقات القوية على الكثير من الأغنيات، وتبدو قوة التفاعلات الموسيقية والحرفية الفنية، في التداخلات والتبادلات الصوتية وتقاطع الموسيقى والغناء مع الفقرات الحوارية.
وما أجمل أن يكون سيد درويش حاضرا في هذه المسرحية اللبنانية والعربية المهمة، وإن لم يكن لوجوده ضرورة درامية، أو أي ارتباط بسياق الأحداث، إلا أن قلوب المحبين أوجدت له المكان والمساحة الزمنية، عندما تُسأل بطلة العمل هيفا عن أغنيتها المفضلة، فتغني السيدة فيروز «أنا هويته وانتهيت» بصوتها العذب الخيالي الحالم، الرومانسي إلى أبعد حدود الرومانسية، مع نعومة مذهلة في التدرج والانتقالات، واتصال الحركة وسلاسة الغناء والإحساس الأنثوي أو التفسير الأنثوي للكلمات، وكان هذا اللحن العاطفي الخالد الذي هو قطعة من قلب سيد درويش في أمان تام مع صوتها.
٭ كاتبة مصرية