لم أهتم كثيرا بتطبيع الإمارات علاقاتها مع إسرائيل، ولا بما أثاره ذلك من ردود أفعال لدى بعض المحللين والمثقفين. إني أرى أن التطبيع، وهو يتخذ صورا وأشكالا لا حصر لها ابتدأ مباشرة بعد حرب أكتوبر 1973. فبها انتهى التضامن العربي الذي كان مهيمنا خلالها إلى حد أن ثلاث عشرة دولة عربية شاركت فيها مباشرة، بالانخراط في الحرب، أو بقطع إمداد النفط. وبرزت فيها المواقف المشرفة للكثير من الدول العربية التي كانت تصنف رجعية أمام مقابلتها التقدمية. لكن ماذا طرأ بعد هذه الحرب التي تنعت بالمجيدة؟ والتي عبرت عن التضامن العربي، وعن إمكان العرب تحقيق شيء ما لفائدة قضاياهم المحلية والعربية إذا ما تضافرت جهودهم ليكون لهم موقع في العالم الجديد؟
يكفي الرجوع إلى ما جرى خلال هذه الحرب، وما بعدها لنجد أنفسنا أمام سلسلة طويلة من الانتكاسات والتراجعات عربيا وفلسطينيا جعلت القضية الفلسطينية، خاصة، والعربية عامة تعرف مسارات جديدة غير التي كانت متوقعة بعد كل الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل، ومن يدعمها، وخاصة خلال سنوات 1948 و1956، 1967. فما الذي أدى إلى تلك الانتكاسات المتواصلة، والتراجعات المستدامة؟ حتى رأينا اتفاق مصر 1979، والأردن 1994، والإمارات 2020؟ هذا جانب تلويح إسرائيل وأمريكا، صدقا أو كذبا، أو هما معا، بأن هناك دولا عربية أخرى في قائمة انتظار التطبيع. وتعليقا على ما يجري الآن: هل يكفي لتغيير الوضع تدبيج البيانات، وجمع التوقيعات، واتخاذ المواقف؟
أرى أن الأسئلة الجوهرية التي تتصل بالصراع العربي ـ الإسرائيلي قلما نطرحها بهدف الفهم والتفسير والتغيير، بله ان نعمل بطريقة مختلفة عما درجنا عليه منذ السبعينيات في تحليل علاقاتنا بالغرب عامة، وأمريكا خاصة، وإسرائيل بصفة أخص.
يفرض علي قراءة الأحداث السؤال التالي: لماذا نجحت إسرائيل في تحقيق دعواها المركزية: بناء وطن لليهود، في الوقت الذي فشل العرب في تحقيق دعواهم المركزية: الوحدة والسيادة وتحرير فلسطين؟ هل يعود ذلك إلى العبقرية اليهودية، كما يتم الادعاء، كمقابل للغباء العربي؟ هل لأن لليهود مخططات يعملون على برمجتها، واختيار الوقت المناسب لتحقيقها في الوقت الذي لا يعطي العرب للزمن أي قيمة؟ وإذا كانت إسرائيل تسعى إلى تطبيع علاقاتها مع العرب لتحقيق حلمها، أو أسطورتها القومية، ماذا يطلب العرب من تطبيع علاقاتهم مع إسرائيل؟ وماذا يمكن أن يحققوا من ذلك التطبيع؟ قد تتعدد الإجابة عن هذه الأسئلة تبعا للمواقف المختلفة من القضية. لكني أرى أن ليس هناك سوى جواب واحد مركزي إلى جانب أجوبة أخرى فرعية. يتمثل هذا الجواب في: تكريس الانقسام العربي، لأن المزيد من خلق أسباب التفرقة هو المدخل الطبيعي والعادي لتحقيق الحلم النقيض.
إن الاختلافات والخلافات العربية ـ العربية كانت مدخلا للهيمنة والسيطرة الاستعمارية القديمة والجديدة. هذه الخلافات جاءت وليدة أنظمة لا تهمها سوى مصلحتها الخاصة، ومستعدة للإقدام على فعل أي شيء لإدامتها ولو على حساب القضايا الكبرى التي تتصل بالوطن والشعب والتاريخ. تستغل إسرائيل، وأمريكا هذه الخلافات، وتعمل على خلقها وتغذيتها، واستمرارها لتحقيق الأهداف الكبرى التي تتعارض مع المصلحة العربية.
ألم تنهج القوى الاستعمارية هذه السياسية وهي ترسم الحدود في جسد الوطن العربي؟ وهي في إقدامها على ذلك تتخذ لها حلفاء من الوطن، وتقدم لهم ما يؤهلهم لبسط الهيمنة الغربية على المنطقة. إن إسرائيل وأمريكا تعملان معا من أجل تحقيق الدعوى نفسها: فرض المزيد من التجزئة والتقسيم لأوصال هذا الوطن، ومحو كل التاريخ القديم، والحديث الممتد إلى سنة 1973 الذي استفادت منه إسرائيل أيما استفادة، فكان بداية تفكير جديد في رسم خطط للمستقبل، في الوقت الذي انتشى فيه العرب بـ”الحرب المجيدة”، فلم تؤد إلا إلى وأد الحلم الفلسطيني والعربي.
تتجلى هذه التحولات في نشر شعارات تناهض أي شكل من أشكال التضامن العربي، تحت مسميات ومصطلحات جديدة: حقوق الأقليات، حقوق الإنسان، الديموقراطية، القومية عنصرية. وكانت حرب الخليج الأولى والثانية، والإرهاب، والإسلام السياسي، والربيع العربي. استغلت كل هذه الأحداث لفرض المزيد من الانقسام، والاستفراد، والتمهيد للتطبيع.
تم تقسيم الفلسطينيين إلى ضفة وقطاع، وتشترط إسرائيل لمناقشة السلام عدم التواصل مع القطاع، بل وممارسة الحرب ضده. تولدت ثنائية فرس وعرب، وصار التناقض بينهما يتخذ بعدا دينيا بين شيعة وسنة. ومع الإرهاب برزت ثنائية الإسلام السياسي الذي ينبغي أن يحارب بكل الوسائل. وكان الانقسام بسبب الاحتجاجات الشعبية ضد الواقع العربي المزري، فكان الاحتجاج المضاد الذي أودى بأي حلم لتحقيق مطالب شعبية.
في خضم هذه التحولات كانت أوصال الوطن الواحد معرضة للانقسام داخليا: العراق، وسوريا، وليبيا واليمن. وفي الوقت الذي نرى فيه إيران وتركيا تعمل كل واحدة منهما على استغلال الوضع المزري الذي انتهى إليه الوطن العربي لتحقيق مكاسب على الأرض، كانت إسرائيل ومعها أمريكا تعمقان الخلافات، وتتفرجان على حروب تخاض نيابة عنهما لتحقيق الأسطورة القومية اليهودية، وتستغلان الشروط التي تم خلقها لرسم ملامح الشرق الأوسط الجديد، عبر توسيع مدار المستوطنات، وصفقة القرن، وصولا إلى العمل من أجل تحقيق السلام مقابل السلام، وعلى العرب المزيد من الحرب.
ما كان لأمريكا ولإسرائيل لتحقيق ما أسميته الدعوى المركزية بدون إنهاك العرب في حروب لا تؤدي بينهم سوى إلا إلى المزيد من التفرقة والانقسام. خلقت القاعدة لتطالب بمحاربة التطرف الديني، وتعمل على خلق مقولة الحوار والتسامح الديني مع اليهودية والمسيحية، ومن خلال ذلك تعميق الصراع والخلاف بين المسلمين، بين الإخوان، وغير الإخوان، عبر نسف مجلس التعاون الخليجي، وتشجيع الطائفية في العراق، وإعطاء الشيعة الصدارة في ممارسة السلطة. تستغل إيران هذا الوضع فتجد لها موطئ قدم أولا في العراق، وبعد ذلك في سوريا واليمن، فتمارس هيمنتها في المنطقة. فتقدمها أمريكا وإسرائيل على أنها العدو الذي ينبغي أن يحل محل داعش التي تلفظ أنفاسها، وتكون صواريخ الحوثيين ـ الإيرانية نحو السعودية إعلانا لحرب ترى أميركا وإسرائيل أن عليها أن تدعم فيها دول الخليج مقابل التطبيع مع إسرائيل، بقصد حمايتها من الحلم القومي الفارسي في المنطقة.
جاء الربيع العربي من خلال مطالب شعبية بسيطة، فكانت بعض الأنظمة ضدها لأن ترى فيها خلخلة لواقع لا تريده أن يتغير. وما تزال الصراعات حول الدساتير، وتشكيل الحكومات المنتخبة والتكنوقراطية دليلا على روح الانقسام، والتفرقة التي باتت جزءا من ذهنية عامة لا ترى مصلحتها إلا في ممارسة الخلاف، والاختلاف. خرج الشعب العربي في العراق ولبنان والجزائر محتجا ضد الطائفية والمحاصصة وحكم العسكر، فلم ينجم عن ذلك سوى حكومات عاجزة عن الفعل، وتوحيد أواصر الأمة ضد الفساد والتفرقة.
لا فرق بين تاريخ أمريكا وإسرائيل. إنه تاريخ لا يقوم إلا على الاغتصاب والتقتيل، وسرقة خيرات الشعوب. إلى متى يظل العرب يرون في الانقسام والصراع بينهم سببا لدخول العصر؟ وإلى متى يظلون خاضعين لمن يخلق لهم أعداءهم سواء كانوا فرسا أو تركا؟ وإلى متى يظل الصراع على السلطة والمال هو الهاجس الذي يتحكم فيهم وهم يعيثون فسادا؟ هذه هي الأسئلة التي تؤرق، فما نستفيق!
كاتب مغربي