صدر عن مطبعة أنس بآسفي كاتب جماعي جديد تحت عنوان: أطولوجيا آسفية زمن الحجر: صرخة ريشة وقلم، في محاولة من المشرفين على هذه الأنطولوجيا للتخفيف من حدة الحجر الصحي وتشجيع الشأن الثاقافي ، وتخليد هذه الجائحة في أعمال فنية تجمع ما يربو على ثلاثين مبدعا في سبعين عملاً فنياً موزعاً بين 26 قصيدة شعرية ومثلها من اللوحات التشكيلية وتسعة عشر نصا زجليا مع مقدمة للكبير الداديسي جاء فيها :
إن اختيار "صرخة ريشة وقلم" عنوان لهذه
الأنطولوجية الجماعية اختيار مشحون بالدلالات المتناسلة إلى ما لا نهاية....
فالصرخة اسم مرَّةٍ من صرخ وتعني الصياح الشديد المشوب
بقوة العاطفة نتيجة الخوف أو الفرح أو الحزن أو الاستغاثة... وكثير هم الفنانون
الذي استعاروا الصرخة للتعبير عن حجم معاناتهم، منذ أن اختار الرسام النرويجي إدفار مونش "صرخة" عنوانا
لأهم لوحاته والتي ستصبح ثاني أغلى لوحة في تاريخ الفن التشكيلي، تلك اللوحة التي تُشعِر مُتأمِّلها أن الألوان
لم تكن كافية لإيصال كل ما يشعر به المبدع،
فغدت "صرخة" تعبيرا عن قلق وجودي تتماهي فيه معاناة الذات بإيقاع الطبيعة،
ليصرخا معا من أعماقهما ويتردد صدى الصرخة في الوجود فيهتز وقد تتغير معالمه...
وإذا كانت تلك
اللوحة مُجرَّد
تحدٍّ لشوبنهاور الذي قال بأن الفن الانطباعي لا يمكن أن يرسم الصرخة. فإذ هذه
الأنطولوجيا/ الصرخة رهان وتحد لواقع لم يعد يقدر الفنان ولم يعد الإنسان فيه
يلتفت لكل ما هو جميل كالشعر والتشكيل، لتأتي هذه الصرخة تعبيرا عن مولود جديد،
وإضافة نوعية في الكتابة سيخلدها التاريخ وثيقة وتحفة تؤرخ لمرحلة بكل حمولاتها...
ولو جاء العنوان اسماً مفرداً "صرحة"
دون وصف أو إضافة، لسهل على القارئ أن يشبه النسخة
الأولى لهذه الأنطولوجيا بالصرخة الأولى للجنين: إعلانُ قدوم مولود بصحة جيدة، ما
دامت رئته أضحت تعمل خارج الرحم، لكن عند إضافة القلم والريشة للصرخة هنا تتناسل
الدلالات والمعاني، وتشرَّع أبواب التأويل وتُرفع الأشرعة لأبحارٍ في محيطٍ لا
حدود له: فأن يصرخ القلم والريشة، تشخيص لأداتي الرسم والكتابة، وذهاب بالمعنى إلى
أبعد حدوده، فيُمسِي القلم والريشة على
خفتهما ونعومتهما أحد من السيف... عندما يصرخ القلم والريشة يصبح صرختهما سفير
القلب ورسوله الأنبل، وترجمانه الأفضل تنقل
ما تختلجه الجوانح من آلام وآمال، وبما أن القلم والريشة لهما رأس وليست لهما رقبه
فهما لا ينحنيان لا يهادنان لا يراوغان ولا يساومان، لذلك يرسمان الواقع دون
مساحيق، أنهما مثل الشمس ضوؤها لا يشرق ولا يغرب إلا وهو يلامس القمم، فهما كالقمر
في نوره، ومثل السيف في حده، ومثل الجواد له عنان ومثل البحر له موج، ومثل الإنسان
له شرف، لذلك صرخة الريشة والقلم لا يتحلل رنين ذبذباتها مهما اتسع المدى، إنهما سلاح لا يخذل صاحبه،
فالقلم إذا اعتمد عليه التاجر لا يخسر في تجارته، وإذا تسلح به العسكري لا ينهزم
في معاركه، وإذا ركبه البحار أمنه من الغرق، وإذا صرخت الريشة وتقيأت ما في جوفها،
سكتت الأفواه، وجحظت العيون، وأبهرت المتأملين، والشعب الذي يسمع صراخ القلم
والريشة يشحذ الهمم وأكيد يصل القمم...
صرخة
القلم تذكير بالرقيب الأعلى، الذي يتتبع أخطاءنا، والسيف المسلط على رقابنا يتعقب
أنفاسنا، ويحاسبنا على كل كبيرة وصغيرة فلا يرفع القلم إلا عن ثلاث" النائم
حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعي" وعدا ذلك فصراخ القلم
هنا موجه للعموم... وصرخة الريشة بوح بالمستور، وقولُ ما لا تستطيع الكلمات
تبليغه، لذلك عندما يبكي القلم تبتسم الكتب، ولما تصرخ الريشة والفرشاة يولد عالم
جديد... وقدرُ الفنان أن ينير ولا يستنير، أن يقود ولا يتبع،
وحتى عندما يضيق به الأفق قد يصرخ لا يستسلم...
وإذا كان العالم العربي اليوم
يتخبط في حالة من التشرذم لم يعرف لها مثيلا، بعدما توالت عليه هزائم ونكبات جعلت
المبدع يحس بالتصدع ويبحث عن وسيلة لنقل إحساسه في واقع يتلذذ بجلد الذات ويحسن توزيع
التهم وتبخيس كل ذي قيمة، فإن مسؤولية هذا المبدع وهو يحس بالأرض تهتز تحت أقدامه
ويشعر بالغربة والتهميش صعوبة لتواصل مع الجمهور وبالأحرى التأثير فيهم، اليوم
أصعب... لذلك لم يجد المبدع، أمام وعيه
بمشاكل المجتمع وعجزه عن إيجاد حلول لها، بُدّاً من أن يجرد قلمه وريشته، ويصرخ في
الناس، عسى صرخته تكون صخرة مُلقاة في بِركة هذا الواقع الآسنة والحبلى بالتناقضات،
وطبيعي أن يحس المبدع في لحظات الأزمات كمن ينثر الجواهر للدجاج، بل يشعر أحوج ما يكون إلى إعادة النظر في مفهوم
الفن ووظيفته، والتفكير في طرق قد تقربه للجمهور أكثر، في هذا السياق جاءت هذه
الأنطولوجيا بتعدد الأشكال التعبيرية فيها، بين الشعر والتشكيل والزجل، صرخة
مفادها أنّ شكلاً واحداً لم يعد قادراً على تبليغ الرسالة... وتقديمُ تلك الأشكال دون تبويب تعبيرٌ عن الفوضى
الخلاقة التي أضحت تسم عصرنا وعلى المبدع خلخلة بنى المجتمع وإعادة ترتيب تلك
الفوضى، للتخفيف من حدة التصدع بين واقع يبدو ظاهريا " كل شيء فيه على ما
يرام" وذاتٍ مبدعة مكلومة تنزف من الداخل لتقدم للمتلقي تجربة متفردة تمتح من
واقع مأساوي مأزوم، والمبدع فيها:
كـطـــــائــــر
مـكـسـورِ الجـنـاحٍ..
نـصـفُـك يُـشْـوىَ
ونـصـفُـك
عــــلى
الــرِّمَــــــــــــــــاحِ"
وعلى الرغم من تلك المسحة الحزينة
والسالبة التي تكسو معظم النصوص واللوحات إذ يغلب على عناوين النصوص معاني: (الشوك،
الضياع، الجنون، العبودية، تغير العالم، الغضب، العتمة، الاختناق، الحكرة، المحاين...)
وتسلل تلك المعاني السالبة حتى لتلك
النصوص التي قد تبدو عناوينها محملة بدلالات موجبة مثل نصوص (أنا الشمعة/ ساعة
الفياق/لون حياتك بالأمل/ كل شيء على ما يرام...) فإنّ هذه الأنطولوجيا ستبقى
وثيقة تاريخية وتحفة فنية تقدم تصور
الفنان المغربي في عصرٍ اجتاحه وباء وكان لزاما عليه أن يتلقط ذبذبات العصر وأن
يصور القضايا الإنسانية المتعالية على الزمن... أن يستمع لخفقان القلوب الآنية ويبقى
متعلقا بالقيم والمثل المطلقة لذلك تميز المهيمن في هذه الإنطولوجية بثنائية
قطبية:
- رأسها الأول آني
لحظي مرتبط بكورونا وما رشته من توابلها على الناس والمجتمع، فألفينا نصوصا شعريةً
وزجليةً ولوحات تشكيلية جعلت من كورونا بؤرتها الأساس مثل نص "ثرثرة
في زمن الكورونا" لربيعة بوزناد، ونص "كرونا المجنونة" لأحمد قيود،
ونص "كورونا يا اللالي" لعبد العزيز موحريز، ولوحة "تسونامي
كورونا" لحسن لجويج ، نص "كورونا" لخيضر كريش، ونص
"كورونا" للحسين شاكر ...
- ورأسها الثاني متجذر في التاريخ مرتبط
بالكرامة الإنسانية وما يتفرع عنها من رفض التمييز، ونبذ الإقصاء والإيمان بالحق
في الاختلاف وقبول الآخر كما هو، فصرخت نصوص ضد التمييز العنصري مثل نص "أسود"
لزهيرة العكاري وقصيدة "انعتاق" لمليكة ضريبين، ونص "نختلف
ونتسامح" لعبد الجليل موحريز والنصين الزجلين "عبد بيض" للخضير
كريش و" حرب اللوان" لبوشعيب
لحمامي
هكذا تصبح الحياة
داخل النصوص صورة للحياة الواقعية، لكن بما أن الحياة في النصوص الفنية حياة رمزية،
فهي تجعلنا نستمتع بالمشاهد التعيسة، ونتلذذ بالمناظر المقززة ما دام القصد في
الإبداع الهروب من واقع مرفوض التوق لعالم منشود، والهدف تظهير النفس والقلوب من
تلك المعاني السالبة، فمن يتذوق جمال القبح في الفن تكون له القدرة على تغيير
الواقع، والعادة أن ينهزم القبح أمام الجمال، والجهل أمام العلم... وهذه
الأنطولوجيا لبنة في بناء مجتمع الفن والمعرفة