منذ بدايتها، اتخذت السرديات منحىً نسقياً، يسعى إلى إستقراء القوانين الكلية التي تنظم عمل كل الأنواع السردية، لقد كان الطموح العلمي صياغة نحو كلي للسرد.
من هنا، تأتي هذه الدراسة التي تتناول بالتحليل فلسفة السرد، وذلك نتيجة إزدياد وعي الباحثين بأن الواحد لا يمكنه أن يبني صرحاً علمياً ولا حضارياً، ذلك أن الإنسان وُجد متعدداً ينضاف إلى المجموع المتكوِّن فيه، فالواحد يعكس التفرّد، وهي سمة ثيوقراطية دالة على روح السيطرة التي بات يمجّها العقل المعاصر من جهة القيام بالبحث العلمي، حيث يتعزز الأخير في شكل مجموعات أو فرق بحث ليتجاوز الإنسان مشكلة الأوحد العجيب إلى الجماعي الخلاق.
وإلى هذا؛ فإن أهمية السرديات تكمن في إنعكاسها
على كافة العلوم الإنسانية وتزاحم مباحثها إلى حد لم يكن بالإمكان معه من ضبط خطاب
واحد بقدر ما تتوالى التنظيرات في شكل لا يستقر ولا يهدأ، مما يجعل الباحث يقر بأن
هذا البحث يخفي وراءه إرادة منهجية لا يكف معها كتاب واحد ولكن الطريق يحتاج إلى
تعبير وتعميق الرؤية ضمن مختلف السرديات القديمة والجديدة لذلك تم سلوك هذا المسار
لتذليل بعض الغوائل المفهومية ضمن خطاطة بحثية ساهم فيها مجموعة من الباحثين الذين
حاولوا التجاوب مع جميع المصبات النظرية وأشهر الممارسات لها في الفضائين العربي
والغربي، فكان جهدهم متوزعاً على قدرة إنتاج دراسات وبحوث تستوعب هذه الخطابة
الشاملة، فتكاثفت جهود الباحثين من أقطار عربية شتى شملت: الجزائر، المغرب، تونس،
مصر، العراق، السعودية، ومن جامعات مختلفة معلنين بذلك أن العلم يمكن أن يوحد ما
عجزت عنه السياسة.
وتوزعت الأبحاث بين ثلاثة فصول، حيث كان الفصل
الأول خطاباً جامعاً لدراسات قيمة تمحورت في عمومها حول تبسيط المحاولات السردية
وقراءة مسارها التاريخي وفحص أهم التنظيرات السردية عند الغرب كما جاء في الدراسة
التي قدمها الباحث "محمد بو عزّة" ووقوفه على المسار الخطي للسرديات
بصورة عامة مع تخصيص الحديث حول إمكانية جمع الشتات في نموذج معرفي واحد.
ولعل هذا الجهد طبقه الفيلسوف "بول
ريكور" في سفر الكبير "الزمان والسرد" والذي أغوى الباحثين عبد
الحق بلعابد عبد الله بريمي فقاما على العناصر الصغرى المشكلّة للوعي العام
لمشروعه، وهي خطوة جريئة تجمع ما هو فلسفي وما هو سردي في صعيد واحد.
أما الباحث "اليامين بن تومي" فقد
سار على نفس الهدي لزملائه حيث تناول تخريجات المصطلحين السردية والسرد ومداراتهما
الإصطلاحية في بؤرة الثقافة الغربية وتلاحفتاها الترجمية في الثقافة العربية،
بينما تناولت الباحثة هيفاء النكيس مبحثاً لا يزال جديداً وهو حول السرد
والبيوتيقا، فمثل ذلك إضافة هامة للقارئ العربي لفتح حقول معرفية دقيقة، وحول
الفانتاستك والسرد جاء بحث الباحث "بوشعيب الساوري" حيث أحاط اللثام عن
هذا المبحث المهم في السرديات المعاصرة، وأضاف جديداً من خلال كشفه عن مختلف
العلاقات التي ينسجها السرد الفانتاستيكي ولوازمه المفهومية التي تتلازم مع
العجائبي والإغرابي من جهة المبنى الدلالي العام.
في تطرق الباحث "عبد الله بن صفية" إلى
السرد الإستشرافي وتلازماته البنيوية في النص السردي، بينما قدمت الباحثة
"سعاد حمداس" مقالاً مترجماً عن السرديات الجديدة وعكس الجهد الترجمي
التلاقحات المنظورية من "رولان بارت" وإلى "جنيت هنش"، وما
ضخته الهومنيوطيقا والفينومينولوجيا من إيضاحات منهجية وكينونية للموضوع السردي
بصورة عامة، أما الفصل الثاني فقد استنفذ فيه أصحابه طرق المتبلغين العرب في
السرديات الخاصة بهم من جهة الموضوعات والأساليب والبنى المختلفة... فكان بحث
"أحمد علواني" الذي وقف فيه على التركيبة الجمالية للقصّ على لسان
الحيوان، ثم الموجهات السياسية والإجتماعية لهذا النوع من القص.
بينما تناول "محمد عبد البشير" السرد
الجاحظي وخصائصه، مع رؤية معمقة لنظر الجاحظ حول السرد، ومع هذا النسق الناظم
للسردي العربي واصل كلاًّ من الباحثين "محمد المسعودي" و"عبد
القادر نويوة" بحثهما في الدوائر المكينة لبئور السرد العربي وجنينياته الأول
التي مكنتها في سماء السرديات العالمية، حيث يتحدث محمد المسعودي عن إمكانية تميز
إصطلاحي للسردية العربية إنطلاقاً من مدونة أبي حيان التوحيدي في كتابه العمدة:
الإمتاع والمؤانسة، بينما يتحدث عبد القادر نويعرة عن كون المقامة نسقاً ثقافياً
شكل فعل التسريد المهم في الثقافة العربية ويعرض لإطروحة الناقد عبد الفتاح كليطو،
وأما الفصل الثالث فقد جاءت أبحاثه بمثابة دراسة لتمثلات الباحثين العرب المرموقين
وتنظيراتهم أو إسقاطاتهم للإصطلاحات السردية ومحاولة إضاءة المدونة السردية
العربية دراسة وتحليلاً، فكانت جهود الباحثين لكل متنوعة لتصب في مجرى واحد هو
التثاقف الفعال بين النص العربي والتنظير الغربي ومحاولة كشف المخبوء في النصوص
إنطلاقاً عن تلك المنظورات الغربية.