خرج الأدب الرقمي من عباءة العلاقة النديّة بين الأدب والتكنولوجيا، التي فرضتها طبيعة النقاش حولهما، وكأنّهما في مواجهةٍ تقابليّة، غير قابلةٍ للاندماج والتلازم. هذا الخروج، الذي أسّس لجنسٍ أدبيّ جديد، أيّ الأدب الرقمي، لم يتخطَ مرحلة "بداية التكوين"، رغم أنّ ظهوره في الساحة الأدبيّة قد مرّ عليه حوالي 20 عامًا، أخذ فيها نصيبًا وافيًا من تدبيج المقالات النقديّة، وعقد الندوات الباحثة في إشكاليّاته، إمّا تنديدًا وإمّا تأييدًا.
حيال العلاقة الازدواجيّة، لم يعد التطرّق إلى ثنائيّة الأدب والتكنولوجيا مقيّدًا بين خياريّ البقاء والإلغاء. فلا التكنولوجيا تبغي إلغاء الأدب، ولا بقاء الأدب يمكن أن يستمرّ بمنأى عن التكنولوجيا. ذلك أنّ طبيعة الأدب، التي تخضع دومًا لتبدّلات وتغيّرات في الشكل والمضمون، وفق معياريّ التقليد والحداثة، غدتْ التكنولوجيا بالنسبة لها، معيارًا حديثًا، أسس لجنسٍ أدبيّ جديد، هو، الأدب الرقمي؛ والذي أحالنا بدوره، إلى نوع جديد من الكتابة، يُناقض قوانينها السابقة، ويوظّفُ المعلومات وجهاز الكمبيوتر من أجل خوض غمارها، فدمج الوسائط الإلكترونيّة المتعددّة، نصيًّا وصوتيًّا وصوريًّا وحركيًّا، داخل فضاءٍ واسعٍ يتجاوز حدود المحبرة والورق، إلى أفق مفتوح.
وفي إطار هذا المخاض، صدر في كانون الثاني (يناير) 2016، عن المركز الثقافي العربي في بيروت، كتاب نقديّ للدكتورة مهى جرجور، حمل عنوان "الأدب في مهبّ التكنولوجيا"، فجاء غلاف الكتاب انعكاسًا صريحًا للبعد الرقمي للأدب، الذي يحلق في فضاءٍ واسعٍ لا محدود، بين أيقونات إلكترونيّة ثارتْ عليه فاقتحمته من باب الحداثة العريض.
ورغم أنّ هذا الإصدار ليس الأول من نوعه في ميدان الأدب الرقمي، لكنه استطاع أن يُبلور خريطته في الساحة الأدبيّة، وأن يكشف الضباب الذي يَعْتريه، فقدّم مرجعًا تنظيميًّا في اتجاهيه النظري والتطبيقي، ليُحيل القارئ إلى خصوصيّة الأدب الرقمي، ومقوّماته البنائيّة، وجذوره الحضاريّة التي تأسست غربًا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، في فرنسا وألمانيا وكندا، قبل أن تكون بدايته الفعليّة في أوساط الثمانينيات، على أثر الثورة المعلوماتيّة التي رافقت انتشار أجهزة الكمبيوتر.
تجاوزت جرجور مفهوم العناوين التقابليّة بالقول: "الأدب والتكنولوجيا"، إلى مفهوم تناصي حمل بُعدًا معجميًّا من أجل الدلالة على علاقة الهبوب "الثورجيّة" بينهما، فرمزت لها بكلمة "مهبّ" الموازية للرياح، وكأنّ "التكنولوجيا" قد استحوذت على دور الهجوم، وتركت لـ"الأدب" مهمّة الدفاع عن نفسه، إلى أن أصبح "الأدب في مهبّ التكنولوجيا".
النصّ بين الورقيّة والرقميّة
ثمّة إشكاليّات تنطلق منها جرور، في معالجة هذه القفزة العكسيّة، من نصٍّ أدبيٍّ كان يُقرأ على الورق فقط، إلى آخرٍ يتنقل بين الشاشات الذكيّة. "فما هي حدود الأدب الرقمي العابر للحدود؟ أيحافظ على خصوصيّة ما أم يُعبّر عن رؤى إنسانيّة موحّدة؟ وتاليًا، هل يسير هذا الإبداع باتجاه توحيد الأنواع الأدبية التقليديّة المتعارف عليها: شعر، قصّة، مسرح، في شكلٍ أدبيٍّ واحد تختصره الرقميّة في جلبابها أو يفتح الباب أمام أشكال جديدة لقراءة أعمال إبداعيّة لا ترتبط من قريب أو بعيد بالأشكال الإبداعيّة الورقيّة المعروفة؟".
في أصل التعبير، يُرادِفُ النصّ الرقمي مصطلح النصّ المترابط (Hypertex)، الذي أطلقه العالم الأميركي تيد نيسلون، في ستينيات القرن الماضي، للإشارة إلى تنظيم النصّ، وكيفيّة بنائه من خلال ترابط عناصره ومكوّناته. أمّا العرب، الذين ورثوا فعليّا هذا المفهوم على أعتاب القرن الحادي والعشرين، فقد اختلفوا في تحديد هذا المصطلح (نصّ مترابط، متشعب، متفرّع، الفائق...)، وكانت كلّها تدلّ على مضمون النصّ الوسيط، الذي لا يُنتج إلّا بواسطة الكمبيوتر، ويتيح التنقُّل من روابطه التي تتجسد بكلمات أو عناوين إلى نصوص في مواقع وصفحات أخرى.
لكن، ومع هذا النوع من النصوص الأدبيّة، التي تحررت من سلطة السطر (التعاقبي)، انتقلنا من النصّ المقروء (المتسلسل)، إلى النصّ المعاين (نشاهده عبر الشاشة)، فأصبح لزامًا علينا "النظر إلى الأدب الرقمي على أنّه نسيج من العلامات اللغويّة وغير اللغويّة التي تتبادل في ما بينها، لبناء عالم متخيّل وتأسيس رؤية معيّنة للوجود أو إلى زاوية منه".
نماذج تحبو ببطء
عمليًّا، تُحيل جرجور القارئ إلى أولى النصوص الرقميّة، التي شكلت بذرة هذا الأدب في رحلة تمددّه حول العالم. وإذا كانت البداية مع قصّة "الظهيرة" التي دوّنها رقميًّا الروائي الأميركي مايكل جويس عام 1986، ثمّة شبه انقطاع دام 10 سنوات، قبل أن تنتقل التجربة إلى فرنسا عام 1996، فأنتج كلٌّ من فرانك ديفور وألين شيفو وجيل أرمانيتي نصًّا رقميًّا مشتركًا تحت عنوان "الزمن القذر"، ما جعل هذا النوع من النصوص الأدبية – الرقميّة، يحظى بمواكبة نقديّة واسعة في الصحف الغربيّة، ذلك أنّها تنبأت بأدبٍ سردي أو شعري يختلف في ثقافته الرقميّة عن الثقافة الورقيّة، ويؤسس لجيلٍ من الأدباء الحداثويين يوظفون أدوات التكنولوجيا في كتابة نصٍّ تكون اللغّة الأدبيّة فيه عنصرًا من عناصره فقط، وليست محوره، بعد دخول العناصر الصوتيّة والحركيّة والصوريّة إلى النص.
التكنولوجيا باعتبارها موضوعًا
التجربة العربيّة، رغم فوضويّةِ ملامحها، بدتْ منتشرة. هذا ما تؤكده الدكتورة جرجور، في عرض قصائد أدبيّة صدرت ورقيًّا بعد العام 1999، كانت التكنولوجيا موضوعها في دراسة انعكاساتها الأدبيّة، وما أحدثته من تغييرات جذريّة على صعيد القضايا التي تتناولها والمستويات المعجميّة والدلاليّة والأسلوبيّة. وعليه، ركّزتْ جرجور على هذه الأعمال الأدبية، وهي: شبح الكمبيوتر للكاتب المصري مجدي صابر، حماري والكمبيوتر لدكتور الفيزياء في أميركا فؤاد الحاج، وقد حاز على جائرة أفضل قصّة في العالم العربي عام 2009، الأزرق والهدهد عشق في الفايسبوك للكاتبة ماجدة وهبة، وئيدًا أحفر في جليد الحيّ للكاتب المغربي طه عدنان، وأوامر إشعاعيّة للكاتب المصري أحمد فضل شبلول.
وبعد تحليل مضامين القصائد، لاحظت جرجور أنّ التغيير الحاصل في مضمون الأدب الرقمي، أحدث شرخًا بين وجهتيّن. ذلك أنّ الكتّاب حملوا هموم مجتمعهم العربي، "واصفين زمنه بزمن العصيان عند الفئة الشابة، والخيبة عند الفئة التي تنادي بالتمسك والأصالة"، فاتخذوا موقفًا سلبيًّا من التكنولوجيا. ومن هذه الأمثلة:
يقول شبلول:
أولادي.. تركوا البيتَ وذهبوا للبحر
ومكثتُ أنا.. مع شاشة الإنترنت
أبحثُ عن معلومات بحريّة
كان النورس يبكي فوق الرمل الأبيض
كَبَّرتُ النورس أضعافًا
نقر الشاشة بالمنقار الفضّي
فانسكب الضوء عليّ
صرتُ شعاعًا من ليزر...
بين الرقمي والتفاعلي
في هذا الوقت، أخذ الإنتاج الرقمي العربي في العام 2007، مكانًا له في ساحة الأجناس الأدبيّة، مع الكاتب منعم الأزرق، الذي أصدر ثلاث قصائد رقميّة، وهي، سيدة الماء، بنعل من ضوء والخروج من رقيم البدن. وقد اعتبرت جرجور أنّ هذه الإصدارات الحديثة غيّرت فيها تكنولوجيا الاتصالات طبيعة النصّ الشعري، "وجعلته يتجاوز التصورات المتداولة حول الشعر والمفاهيم التي كانت توجّه قراءته، لتتحول القصيدة الرقمية إلى نصّ إبداعي شعري، له هويته الخاصة. فهو أقرب إلى قصيدة النثر، لجهة إسقاط الوزن إسقاطًا يكاد يكون تامًا، ينبع من حساسيّة جديدة في التعامل النصّي، من خلال الرؤية والمضمون واللغة وتشكيل الإيقاع الذي يتخذ ملامح سُرياليّة، ويخرج من العادي والمألوف، نصٌّ إبداعي رقمي يفتقر للعلاقات المنطقيّة المتوقعة في بناء القصيدة، ما يجعلها تتسم بالحريّة والاختلاف".
لكن الرقميّة لا تعني التفاعليّة. فالأدب التفاعلي، بعد أن ظهر غربًا في التسعينيات على يد الشاعر الأميركي روبرت كاندل، يمكن اعتباره مرحلة تطويريّة نجمت من الأدب الرقمي، والتي انتقل فيها القارئ من خانة المتلقي السلبي إلى خانة المتلقي التفاعلي. لذا، أفردت جرجور فصلًا كاملًا، درست فيه الأدب التفاعلي منذ نشأته، والذي أثر في ظهور نظريّة التلقي، "ومنها المدرسة الشكلانيّة التي وسّعت مفهوم الشكل الذي يندرج فيها الجمال والجذب". ذلك أنّ الأدب التفاعلي، يتخذ التركيب الكلّي أساسًا لبنائه، "ويوظف الشاعر فيه وسائط متعددة، من نصوص وصور وموسيقى، وعليه، تتشكل من عدّة شاشات تترابط تقنيّا في ما بينها، ومن ضمنها الشاشة الرئيسة"، وكان المثال الذي قدمته جرجور في القصيدة التفاعليّة للكاتب عباس معن: تباريح رقميّة لسيرة بعضها أزرق.
النقاش حول الجنس الأدبي الجديد، الرقمي والتفاعلي، سيبقى مفتوحًا دون إطارٍ يحدده إلى أن تقوى ركائزه في مواجهة معضلتين. المعضلة الأولى، أنّ هذا الأدب فتح الباب أمام جميع المستويات من قراء وكتّاب ضعيفي المواهب، فأصبحت عملية الضبط والنقد مهمة صعبة لأنّه مباحٌ للجميع. المعضلة الثانية، أنّ هذا النوع الأدبي يفتقر إلى حماية الملكيّة، التي أشارت إليها جرجور، وعرضت مشاكل خدمة النشر والملكية الفكرية في بيئة الإنترنت، لا سيما بعد انتشار عمليات القرصنة والسرقات، المستفيدة من غياب قوانين صارمة، تحمي حقوق النشر الإلكتروني.
* صحافية من لبنان