من الصعوبة بمكان أن ترصد أو تحيط بظاهرة أدبية خلال عام إحاطة كاملة، فمثل هذا العمل يتطلب جهدًا نظريًّا وعمليًّا معًا، ولا يقتصر على ناقد مستقر في بيته يعتمد على عناصر وإحصاءات غير دقيقة ويطبق عليها مناهجه النقدية المألوفة.
إن مثل هذا العمل يشبه الرسائل العلمية في الجامعات، فإذا قصر الباحث في رصد عنصر ما أو إحصاء معين، راجعه المناقش أو المشرف حتى يستكمل عمله.
وهذا في ظنِّي بدا واضحا في الدراسات النقدية التي اجتهد فيه النقاد العرب هنا وهناك لرصد حالة الشعر العربي في عام 2019 في كتاب موسوعي صدر عن أكاديمية الشعر العربي بالمملكة العربية السعودية جاء في 900 صفحة من القطع الكبير، والتي نشكرها على هذا الجهد الكبير الذي كنا في حاجة إليه.
ولهذا قرر الشاعر أحمد فضل شبلول أن يلخص هذه الدراسات – وهذا جهد مهم – ثم يحاول أن يقف على بعض العناصر التي وقع فيها النقاد نتيجة التسرع أو عدم الإحاطة الدقيقة بالظاهرة، وهذا جهد آخر يحمد عليه.
وألاحظ أن شبلول كان رفوقًا بالنقاد لا يريد أن يغضبهم، فأحيانا يذكر لهم إغفالهم أمرًا ما، ويصمت، دون أن يذكر لومًا أو خطأ فيغضبهم، وأحيانا يعرض الملخص، ويكتفي بهذا العرض. وبالرغم من ذلك فلولا أن شبلول بذل جهدًا في العرض والتلخيص ما وصل إلينا شيء من هذه الدراسات.
وربما نستطيع اليوم أن نؤازر شبلول ونضيف إلى نظراته ملاحظات أخرى دون أن نحسب حسابًا لغضب النقاد المحترمين.
وسوف نقصر نظراتنا على النقاد المصريين الذين رصدوا الواقع الشعري في مصر.
وأبدأ بما قدمه الشاعر الناقد د. أحمد بلبولة، وكان عنوان دراسته "الحركة النقدية وخصائص الشعرية المعاصرة في مصر" وقد تابعها على المستويين الأكاديمي وغير الأكاديمي.
ونراه يعتمد على مصدرين لا ثالث لهما، الأول ما حرّره الشاعر أحمد سراج عن الشاعر رفعت سلام، والآخر ما أصدره بيت الشعر بالأقصر حول أعمال تسعة وعشرين شاعرا مصريا شابا.
ونحن نوافق شبلول على أن هذين المصدرين غير كافيين لرصد الحركة النقدية، وأن الناقد أغفل ما نشر عام 2019 أو 2018 من دواوين وقصائد في المجلات والصحف.
أما الناقد د. محمد عبدالباسط فقد ركّز بحثه عن الشعر المصري بين جماليتين، وذهب إلى أن قصيدة النثر قد هيمنت على المشهد الشعري في مصر، وأن قصيدة النثر قوضت البناء التفعيلي، ويدلل الناقد على ذلك بدواوين نشرت في أعوام سابقة (2001 – 2005 – 1991 – 1998) وهذه بالتأكيد لا تمثل الشعر الراهن، ولو أنه عاد إلى سلسلة "الإبداع الشعري المعاصر" الذي استمر صدورها عشر سنوات كاملة بحصاد 150 ديوانًا لتأكد من خريطة الشعر الراهن، ولا وجدناه منحازًا يتأرجح هكذا، ويخلط بين الأجيال، ويغفل من الساحة الأسماء المهمة في الشعر، بل نجده يناقض نفسه في تفسير القصيدة الموزونة والقصيدة النثرية.
أما د. أحمد مجاهد فقد تناول حالة نشر الشعر في مصر، فقدم رصدًا إحصائيًّا وتحليليًّا للدواوين المنشورة عام 2018 ويوافق على هيمنة قصيدة النثر.
وربما استطاع د. مجاهد أن يضع يده على العلّة الحقيقية في نشر الشعر، وهي انصراف الناشرين الكبار عن نشر الشعر والاهتمام بالرواية "مما دعا الشعراء إلى نشر دواوينهم على نفقتهم الخاصة".
وهناك مقولة قديمة تخبرنا أنه إذا كثر الشعراء قلّ الشعر، فالساحة الآن مغمورة بالدواوين التي ينشرها أصحابها على نفقتهم الخاصة ولا يلتفت لها ناقد ليقوّم جودتها أو فنيتها، وربما تقدم بها أصحابها، وحصلوا على عضوية اتحاد الكتاب لمجرد أنهم أصدروا ثلاثة أعمال.
وقد التفتتْ لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة إلى هذه الحالة المرتبكة، ففكرنا أن نعلن عن مبادرة "كل يوم شاعر" والتي تخضع للتقويم الدقيق واعتبار الجودة، والجودة فقط، بطاقة العبور لإذاعة القصيدة في المبادرة، ولم نقتصر على الشعر المصري، بل استجاب للمبادرة شعراء عرب كثيرون، وضمت المبادرة الشعراء الكهول والشباب وألوان الشعر المختلفة من فصحى وعامية وغيرهما.
ثم يكتب د. أبواليزيد الشرقاوي عن حالة الشعر بين الفنون الإبداعية في مصر، وكيف تأثر الشعراء بالمسرح والسينما والرسم ونظريات الاتصال، وبالطبع يطبق ذلك على عينة محددة جدا من الشعراء، وأغفل تجارب كثيرة كانت من الممكن أن تثري دراسته، وربما نبهنا إلى أمر مهم، وهو هذا الانتشار الكمي الذي نجده في الندوات والأمسيات الشعرية والذي قد نختلف حول قيمته الفنية.
ويأخذنا د. محمد عناني إلى "حالة ترجمة الشعر في مصر" ويذكر الصراع الذي شغل الدارسين بين قضية التعريب وقضية الترجمة، نتيجة عدم الالتفات إلى الشعر.
ويحاول د. عناني رصد الدواوين المنشورة من عام 2010 إلى 2020 لكنها إحصائية غير دقيقة للأسف، وفي الوقت نفسه يقرر أن ترجمة المسرح الشعري كانت لأسماء معينة دون غيرها، وهذه حقيقة مؤسفة.
ثم نقرأ دراسة د. أحمد درويش "حالة الترجمة في مصر والسودان" حيث يقرر أن الترجمة مهمة شاقة (المترجم خائن) للنص لأنه يترجم المعنى ولا يترجم الإيقاع والإحساس الدقيق.
ويشيد د. أحمد درويش بجهود د. عناني ود. نادية كامل، لكن هذه الدراسة أيضا تؤرقنا أرقًا كبيرًا، فإلى متى نظل محجوبين بأشعارنا عن العالم، ولماذا نحسن ترجمة كبار الشعراء في الشرق والغرب، ولا أحد يُحسن ترجمة أشعارنا إلى لغات العالم. نريد المترجم النابه الذي يملك الإحساس باللغة العربية، وباللغة التي يترجم لها، ثم لا تخاف ولا يؤرقنا ما يقال عن خيانة النص.
وأخيرا نقرأ دراسة د. محمد عبدالمطلب "تحولات الشعرية في زمن الحداثة" وهو يخالف كثيرًا من النقاد الآخرين الذين ذكرناهم حيث يرى أن الشعراء في تزايد لا في تناقص، ويوازي ذلك تزايد في الدواوين المنشورة، حيث رصد صدور نحو 200 ديوان عام 2018.
ثم تحدث عن الشعرية العربية وركائزها: الإيقاع الموسيقي – اللغة الشعرية – التخييل والمعنى. ويؤكد أن قصيدة النثر أسقطت الإيقاع واعتمدت على اللغة والتخييل فقط، وأنها استبعدت الملتقي من حسابها استبعادًا مؤقتًا.
أما النص الرقمي أو الإلكتروني فهو سريع الانتشار وسريع التعليقات، ثم يؤكد أن ترجمة الشعر تكاد تكون مستحيلة، وأن حفلات التوقيع ظاهرة تجارية زائفة. ثم يقول: أما المستقبل فلا يمكن التنبؤ به، وإن كان هناك رغبة في العودة إلى القصيدة العمودية.
ويمكن أن نجمل في النهاية ملاحظاتنا على هذه الدراسات، فيما يلي:
- إن كل الدارسين – نقاد أكاديميون – طبقوا مناهجهم العلمية كما يشاءون، لكنهم لم يستطيعوا أن يرصدوا إحصائيا ما صدر من دواوين وقصائد منشورة في المجلات، ومن ثم كانت أحكامهم ناقصة غير معبرة بدقة عن واقع الشعر.
- كنت أتوقع أن يكتب الشعراء تجاربهم الشعرية ورؤاهم للشعر من خلال هذه التجارب.
- لم يرصد النقاد حالة اندماج الشعر في قضايا المجتمع، هذه الحالة التي لها تأثير إيجابي قوي على الساحة الشعرية.
- أغفل النقاد رؤى كثيرة معيشة لأنهم معزولون في قواقع الأكاديمية والمنهجية، غير ممارسين للعملية الإبداعية، فكانوا راصدين لها ومحللين بمناهج النقد التقليدية، ومن ثم أصدروا أحكاما مطلقة تستحق المراجعة.
وأرى أنه حينما يتجاور الناقد والشاعر تكتمل الرؤية وتصدق الأحكام.
شكرا الشاعر أحمد شبلول على هذا الكتاب الذي ضمّ هذه الدراسات وغيرها على مدى الوطن العربي.