لا يمكن إنجاز مقاربة موضوعية للغة، إلا ضمن علاقاتها المتشعبة والمتفرعة بمختلف أنواع السلطات، التي تصطدم بها، أو تتعايش معها، خلال تفاعلاتها المتعددة الأبعاد، وهو شيء جد طبيعي، بالنظر لما تضطلع بها السلطات ككل من أدوار وازنة، في توجيه مسارات التواصل بين الأفراد والجماعات، خاصة حينما تميل إلى تفجير غير قليل من المواقف المتعارضة والمتصارعة، بالاستفادة من ظاهرة تباين القناعات المجتمعية تجاه القيم السائدة. وبالتأكيد، سوف يكون الصراع الأكثر شراسة، هو ذاك الدائر بين الخطابات الصادرة عن مؤسسات السلطات الحاكمة، وخطابات الأطياف المناوئة لها.
فعبر تأمل ومعاينة التوجهات اللغوية السائدة، سوف ننتهي إلى معرفة الخلفيات السياسية العامة، التي تعتمدها السلطات الحاكمة في تدبير شؤونها، كما يمكن التعرف على الخلفيات الكامنة في تحديد اختياراتها الاقتصادية إقليميا ودوليا، فضلا عن الوقوف على القيم المؤطرة لهذه العلاقات، ثم من خلال هذا وذاك، يمكن استجلاء خصوصية الهوية التي تكون السلطة بصدد بلورتها وتكريس العمل بها.
والحديث عن الهوية، حديث ضمني عن خصوصية المكونات الحضارية، التي يحاول النظام الحاكم الظهور بها في المحافل الدولية، لتكون علامة دالة عليه، كلما دعت الضرورة إلى انخراطه في مشاريع تعاقدية وتشاركية، تجمعه بغيره من الأنظمة الإقليمية أو الدولية. كما انها تدل عليه، حال اصطدامه ببعض الإشكاليات الطارئة، التي توضع فيها هويته على محك التقييم والاختبار. وبالنظر إلى الصراعات المحتدمة التي تخوضها الشعوب، من أجل إثبات حق وجودها في المشهد الدولي، فإن أهمية هذه الهوية، تصبح موضوع تساؤل من قبل الاستراتيجيات التي تتبناها دواليب النظام، ما لم تثبت كفاءتها في ترجمة قيمها على أرض الواقع، في انسجام تام مع انتظارات المنتظم الدولي، ذلك أن ما يندرج عادة ضمن خانة المصالح العليا للدولة، يتجاوز من حيث الأهمية كل القيم المسكوكة والمتداولة حول قضايا شائكة من قبيل الهوية.
وضمن واقع الصراعات المستعرة نارها، دونما هوادة في المشهد الدولي، ستكون مراعاة موازين القوى، من بين أهم المسلمات الواجب أخذها بعين الاعتبار، بالنسبة للأنظمة كافة، الحريصة على تأمين مكان ملائم لها تحت الشمس. وما دام السياق الذي نحن بصدده يخص العالم العربي، فإن الدول المنتظمة في إطاره، تجد نفسها مدعوة للتشبت بهويتها، من أجل تكريس حضورها، بما يقتضيه المقام من ثقل الهيبة وقوة الإشعاع. وهو مطلب يتعذر تحقيقه، دون تضخيم عفوي أو مبرمج «للقداسة» «الاستثنائية» التي تتميز بها اللغة العربية. إذ عبر هذا التضخيم التلقائي أو المبيت، تستطيع الدولة المعنية أن تحظى بمكانتها الخاصة في الفسيفساء المتنوعة للعالم العربي، كنوع من الاعتراف بشرعية وشرف مساهمتها في ترسيخ وإثراء توجهات الهوية المشتركة، وطبعا ضمن امتداداتها الإسلامية.
فالأقليات تستغل التغييب التام لخصوصيتها اللغوية، من أجل تحقيق مآرب سياسية جد ظرفية وعابرة. كما أن السلطات الوصية، تجد في هذا الابتزاز الوضيع ضالتها، من خلال تبرعها الموسمي بمكتسبات لا ترقى حتى إلى مستوى الابتزاز الشكلي.
ومن المؤكد أن الإطار الموضوعي والحقيقي الذي تتحقق فيه حظوة هذا الاعتراف، هو التبني اللامشروط لقيم اللغة، بكل ما يكتنفها من حيثيات دينية روحية وبيانية، جديرة بالتنويه والتمجيد، حيث سيكون لكل إخلال بهذه التعاقدات الرمزية تجاه الهوية اللغوية، من قبل هذه الدولة العربية أو تلك، تبعاته وتداعياته السلبية على دواليبها. كما على شرائحها المجتمعية، حيث ستنظر إليها باقي الشعوب العربية، بنظرتها القدحية نفسها للمرأة، أي بوصفها «ناقصة عقل ودين» وغير جديرة بالانتماء إلى المنتظم العربي الإسلامي، وهو موقف ليس في صالح أي دولة، تحرص على الظهور بمظهر سياسي وحضاري، على مستوى متقدم من النضج، سواء في أعين حلفائها، أو أعين المتربصين بها.
وباعتبار أن التموضع الفعلي الذي تسعى إلى تحقيقه كل دولة عربية، هو ذاك المجسد في تكامل البعد الهوياتي مع البعد العالمي، فسيكون من الطبيعي أن تعمل في الوقت نفسه، على اكتساب لغة مغايرة، مشبعة بقيم كونية، تمارس حضورها خارج دائرة الهوية الضيقة، المعبأة بقيم العروبة والعقيدة. ذلك أن الاقتصار على تأمين مكان مريح في محيط العالم العربي الإسلامي، دون التفكير في العمق الكوني، قد يتحول وبصورة مباغتة، إلى لعنة باهظة التكاليف، بفعل الاختلالات السياسية وتقلباتها الضارية المتربصة بمحيطها داخليا وخارجيا.
وبموجب هذه الاحتمالات الواردة جدا، تكون الدولة العربية مدعوة لتجريب لغة كونية موازية، تتيح لها فرص التفاعل الحضاري مع القوى العظمى، المتميزة بسلطتها المؤثرة في المشهد العالمي. ولربما يكون هاجس تبني وتملك هذه اللغة الموازية، هو الرهان الفعلي الذي تتطلع إليه الدولة، طمعا في الانتماء إلى المنتدى الكوني، في ما تكون لغة الهوية، مجرد قناع اضطراري، تلزم بتبنيه فقط على سبيل إرضاء حرس القيم العربية القديمة وسدنتها، ذلك أن تبني وتملك لغة الآخر، يعني إلى حد ما، تبني قيمه الحداثية بتلويناتها العلمية والأخلاقية والحضارية، إلى جانب كونه رهانا يضمن لها الفوز بشركاء من عيار أثقل وزنا، وأجدى فعالية من شركاء متقاعدين، تتقاسم معهم تراثا روحيا ولغويا، لم يعد يسمن ولا يغني من جوع، لاسيما وأنه تراث مثقل بأعباء المحظورات، التي تحول دون تلمس الطريق المفضي إلى آفاق ومنتزهات الكونية. ما يجعلنا نخلص إلى الإقرار بواقع هاجس الاستقواء، الذي تتأسس على أرضيته علاقة الأنظمة الحاكمة باللغة، سواء كانت لغتها الرسمية التي تنال بها شرعيتها السيادية، أو كانت لغة الآخر التي تعزز بها مكانتها الإقليمية والدولية، وهي مفارقة تبدو جد صحية وموضوعية، إذا ما وضعناها في ميزان ذرائعي، يعنى أولا وأخيرا بالمردودية الملموسة، وليس بالحنين المجرد، إلى إحياء جذور هوية طالها جفاف التقادم.
غير أن المثير في هذه المفارقة، هو غربة السؤال، المتعلق بتحديد الموقع الذي تحتله لغات الأقليات، وهو في الواقع سؤال على درجة مهولة من المأساوية، لسبب أساسي لا يخلو أيضا من مأساويته، مفاده أن هذه اللغات، ومهما ارتفع عدد الناطقين بها، تقع خارج كل من التوظيف العروبي والكوني، بمعنى أنها تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات السلطة، التي يمكن أن تجعل منها ـ في حالة توفرها – طرفا أساسيا في المعادلة الرسمية، وهو في جميع الأحوال، موضوع يحتاج إلى مقاربة قائمة الذات، غير أن ذلك لن يمنعنا من الإشارة إلى أن القيمة المضافة إلى الأقليات اللغوية، تكمن في إلهابها لنيران المزايدات، التي لا تعدو أن تكون ذات طابع ابتزازي من قبل الأطراف المعنية، ودون أن يكون لها أي مردودية اقتصادية، أو حضارية. فالأقليات تستغل التغييب التام لخصوصيتها اللغوية، من أجل تحقيق مآرب سياسية جد ظرفية وعابرة. كما أن السلطات الوصية، تجد في هذا الابتزاز الوضيع ضالتها، من خلال تبرعها الموسمي بمكتسبات لا ترقى حتى إلى مستوى الابتزاز الشكلي. في ما تحرص المنظمات الدولية بدورها، على اختيار الظرفية المناسبة، للإعلان عن حضورها ، بإشهارها ورقة الأقليات اللغوية كلما دعت الضرورة للتضييق على الدولة المعنية وبالتالي، فإن هذه الأقليات تكتفي بنصيبها من المفارقة، بمشاركتها الإرادية في لعبة ركيكة، تقع خارج الميدان الرسمي، الذي تحسم فيه عادة مصائر اللاعبين الكبار دون غيرهم. وتلك هي المهزلة التي ينتشي التاريخ بخلط أوراقها، كي تستمر اللغة في ممارسة دورها التقليدي، بوصفها خادمة وفية ومخلصة للسلطة.
شاعر وكاتب من المغرب