انفعال وتفاعل، والكاتب ـ قاصداً أو غافلا ًـ مندفعٌ إلى التعبير عن محيطه بصورة أو بأخرى، وهذا ما يضفي على كتابته نوعا من الواقعية، مهما جنح به الخيال.. في مجموعة «ماذا تحكي أيها البحر» نجد فاطمة الزهراء المرابط منشغلة بتفاصيل يومية تمرّ بنا مرارا، وقد لا نعيرها اهتماماً، لكن الكاتبة تفعل ذلك انطلاقاً من سؤالها «ماذا تحكي أيها البحر؟» وهو سؤال عائم، يحمل شساعة الزرقة، يبحث عن إجابات تختلف باختلاف الرؤى وتعدد الشخصيات.
من العام إلى الخاص… كشف المستور
في محاولة لرصد الخلل الذي يقف حجر عثرة، أمام طريق تطوّر المجتمعات، ويثير غبار التخلف، تقبض الكاتبة على بعض الخروقات التي تنخر الواقع، وتستعرضها بنكهة السخرية تارة، وبنكهة الحسرة تارة أخرى. ففي قصة «انتظار» تعالج الكاتبة الفساد الإداري.. بحيث تعرض نوعين من أنواع هذا الفساد، يتجلى الأول في ضرورة دفع الرشوة للموظفين، حتى ييسروا أمور الناس، والثاني يتمثّل في انصراف أولي الأمر عن استقبالهم. وتحمل الحكاية في ثناياها تطوراً منطقياً للحدث، كما تحمل في تفاصيلها معاناة شكّلت بذرة، كانت سبباً في صوغ نهاية تهزّ استقرار عالم السرد الافتتاحي، الذي كان يحتاج إلى التغيير: «تعالت أصوات المواطنين، وتطايرت الأوراق في الهواء». وقد عمدت الكاتبة في هذه القصة إلى جعل أبطالها يحكون باللهجة المحلية «آه على زمان الحُكْرة» لأن اللهجة الدارجة لصيقة بالواقع وتقرب ملامحه إلى القارئ.
كما اعتمدت على المحفوظات الشعبية من قبيل «ادهن السير يسير». وهو محفوظ شعبي يردده العاملون في الدائرة الحكومية، ويهمسون به في آذان المراجعين. إلا أن مكمن الخطورة في هذا الاستخدام الشعبي الواسع لمثل هذه المحفوظات هو الإيحاء الذي يتركه لدى المتلقي وكأنّ الرشوة هي دين المجتمع بأسره، وهي سائدة سيادة تجعل من طلبها مثلاً شعبياً، يعرفه القاصي والداني، بما يوحي بأن الرشوة صارت ثقافة شعب بأكمله، وبما أنّ الشعب المسحوق يبذل كل جهد ممكن كي يسير، فلا بدّ له أن يدهن السّير.
ومن العام إلى الخاص نجد الكاتبة تبرز موقفها الذهني المباشر في «قصة لعنة» من خلال عبارة «من يملك بيتا من زجاج لا يرمي الآخرين بالحجر.. وهو مثل متداول، يشير بأصبع الاتهام إلى فئة تتعامى عن أخطائها، بينما تحاول التذاكي على الآخرين بتصيّد أخطائهم. تنتقد القاصة في هذه القصة الصورة السلبية لناقد يوزّع أحكامه على المبدعين. وتتابع القاصة حكايتها من خلال شخصية البطلة المبدعة فـ»عيناها ترمقانه بنظرات حادة وحزينة، وكأنهما تترجيانه أن يكفّ عن نفث سمومه اللاذعة». والقصة تحمل رسالة قاسية ومحقّة لجمهور اللقاءات الإبداعية، الذين أخذتهم التكنولوجيا خارج ساحات الإبداع؛ فـ»ما الجدوى من السفر لساعات وساعات؟ والوقوف لدقائق أمام الميكروفون، أمام الكاميرا؟ تتساءل في أعماقها، وهي تتأمل الوجوه المنصتة، الوجوه المتجهمة، المتبرمة، الأنامل العابثة بأزرار الأجهزة المحمولة».
ومن المعين نفسه تُفرغ القاصة في قصة «التباس» قالب المبدع المزيف من محتواه المُغلف بغلاف براق مخادع؛ لتُلفت انتباه قرائها إلى نوعية من الكتاب؛ تُعطى لها أهمية أكبر من حجمها. أيضا ترصد حكاية الكاتبة الأولى وتبرز نوعاً من الفساد الذي يطال الإبداع ذاته، فيعطي ثقافة عرجاء. الكاتبة الأولى في القصة تعيش على نصوص الآخرين وتستبيح إبداعهم إذ لا تخجل من أن تعلن منذ الافتتاحية: «أنا الكاتبة الأولى». في القصة تأسيس قاد إلى حبكة مقنعة، فقامت الافتتاحية بوظيفتها كاملة، حتى إنّها أوحت بالنهاية، عبر عبارات لا يفهمها القارئ إلا بعد انتهاء القصة، وهي العبارات التي تؤشر إلى أنّها سارقة، دون أن تصرّح بذلك مباشرة: «هي تعلم أنّ حبل الوهم قصير. لكنّ الأحضان الباردة والليالي الخيالية تحوّل الخيوط المتشابكة إلى بساط سحري». وعلينا هنا أن نضيء نقطة تشكل أهمية في وعي الكتابة؛ فالشخصيات في قصة «التباس» وفي معظم القصص، بلا أسماء، والتنكير هنا يفيد التعميم، فهل تريد الكاتبة أن تقول إن هذه الظاهرة ظاهرة شائعة؟
الحلم والرغبات المستحيلة
استفادت فاطمة الزهراء المرابط من تقنية الحلم، ونجحت في إيهام القارئ عند استخدامه بواقعية ما يُحكى إلى آخر سطر. كما نجد في قصة «وردة» فالسارد ها هنا يستيقظ من نومه باحثاً عن حبيبته وردة إلى جانبه. يتذكّر الليلة الفائتة التي منحته فيها جسدها، دون أن يمنحها وعداً بالزواج، لأنّ «الزواج يقتل الحب» وعلى الرغم من أنّه كان يكوي قلبها بتلك الجملة، فقد بقيت معه، لكنه الآن يفتقدها، وهو خائف لانّها قالت له «سأرحل، سأموت». وحين يصرخ «وردة» يأتي السياق النهائي كما يلي: «نهضتُ مفزوعاً.. وقطرات العرق تبلل خدي». لقد كان نائماً إذن، وهذه الحكاية المفزعة كانت مجرد حلم. أيضا استفادت قصة «ضباب»؛ من تقنية الحلم في عرض الأحداث، ونجحت كما في قصة «وردة» في إيهام القارئ بواقعية الحدث، حتى تتكشف النهاية عن ذلك الحلم البهيج. غير أنّ بعض المفردات تبدو غير دقيقة في سياقها من مثل قولها «خطفتَ من شفتيّ قبلة عميقة، فالفعل خطفت يبدو غير متناسب مع كلمة عميقة. ومن مثل قولها: «أدركتُ حينها أنّكَ تعدّ لي سهرة ليلية بامتياز». فهل هناك سهرة نهارية؟
في البناء والأسلوب
حاولت القاصة فاطمة الزهراء المرابط، أن تنوع في رصد الحكايات، واستطاعت في مواقف كثيرة أن تشد القارئ، فبدت متمكنة من خيوط السرد إلا أن تكرارها لتعابير بعينها كـ: القهوة السوداء، وكأس الشاي الأخضر، وذات قطار، والمرأة الشقراء، شكلت جزءاً من تأثيث عدد من قصص المجموعة، وقدمت إيحاءً بأن هذه العوالم هي عوالم القاصة الخاصة، وهي تعبر عن مزاج خاص بها. ونتصور أنه على القاص أن ينتبه إلى مزاجه الخاص، وأن يُبعده قدر الإمكان عن الصيغة السردية، حتى لا يقع في تكرار يمكن أن يؤخذ عليه. في قصة «انتظار» تواجهنا القاصة بالمباشرة التي تجرح جمال النص، وتقدم شعارات لا تخدم شاعرية السرد، من مثل قول أحدهم: «هذا عار، هذا عار، الشعب في خطر». وتبدو قصة «عبور» وهي حكاية عاشقة يبعدها البحر عن حبيبها، لطيفةً، ذات حبكة مقنعة، غير أن حديث البطلة عن أحبّائها الخمسة، كما يبدو إنشائيا، لا يحرك السرد ولا يؤثر فيه، وهو مجرد كلام جميل موضوع وسط تراكم الحكاية: «الأول ينعش ذاكرتي المنسية، والثاني يرحل بي إلى عوالم خيالية، والثالث يعطّر يومياتي، والرابع يحتوي جنوني ويؤنس وحدتي، والخامس يخاطبني بنبرته الدافئة، ويحتوي جسدي المتعب كلما اشتقت إليك».
«ماذا تحكي أيها البحر؟» تقدم الشخصيات بأسلوب ساخر لاذع، وتفضح الأقنعة التي تختبئ خلفها، وفي قصص الكاتبة حنين للعودة إلى الماضي، ممزوجاً برغبة في الانعتاق. على غرار ما نجد في قصة «أمواج» التي نختتم دراستنا بجزء مما ورد فيها: «حررتُ قدميّ من الحذاء الرياضيّ لتغوصا بين حبات الرمل الدافئة».
كاتبة مغربية