صديقي شعيب حليفي، بن بويا...
تحية الوفاء؛
ليس من عادتي أن
أكاتبكَ، كلما احتجتُ إليك أكلمك مباشرة . وها أنت دعوتَني اليوم لأجرب الكتابة
إليك بعدما قرأت حكاياتك المدهشة عن سوسو وافيطنة الحمادية والشيخ البرغوت
والكناوية التي أعلنتْ بداية الليل؛
وأيّ ليل !
ولأنني أرسلت
إليك – كالعادة – كلمات عابرات عبر الوات ساب لما قرأته من حكايات، علّقتَ بعبارة
موجزة ضمنتُها صدرَ هذه الرسالة بما يفيدُ عكسَ المقصود منها، وجعلت منها مدارَ
موضوع ظل دوما عندي أفقَ تفكير: الكتابة وشواغلها، وذلك منذ قرأت كتاب جان بول
سارتر : ما الأدب ؟ بأسئلته الأزلية: ما الكتابة؟ لماذا نكتب؟ لمن نكتب؟
طيب؛ لا أخفيكَ
لم أحاول يوما كتابة الرواية؛ مع أنني جربتُ الكتابة على نحو عامّ . فكرتُ وفكرتُ
ثم فكرتُ، وتبينَ لي أنني غير قادر على خلق شخصية روائية؛ وفكرتُ مرة أخيرة أن
الأمر يحتاج – ربما - لروتين يومي لم أجد بعد كيف أحتال عليه لتكونَ الممارسةُ،
ممارسة الكتابة طبعا، ذات جدوى بالنسبة إليّ على الأقل.
وأصارحكَ،
صديقي، أنه في كل مرة أحاول كتابة قصة، أو قصيدة، أو رواية إلا وخاطبني الهمذاني
والجاحظ ومحفوظ وجبرا ومنيف وسهيل وغلاب وزفزاف وصنع الله وشوقي والشابي والسياب
وقباني والماغوط وفرلين ودوستويفسكي وبروست وفلوبير وكافكا وكونديرا وبورخيص: لقد
قيل كل شيء يا بنيّ ! ولم يعد هناك ما
يقال . فقد كتبنا عن الحب والسخرية والألم
والتفاهة والحرب والسلم والغرور والهدوء والجنون والمسخ والحيرة والمدن والأرياف
والعزلة والموت والصمت والكلام واليومي...كتبنا الحياة؛
وأنا حين أكتب
أخاف أن أجد محاكاة من قرأت لهم ... لذلك أتهيبُ الكتابة.
صديقي الغالي؛
اعتقدتُ لسنوات
طويلة أيام الصبا أن الكتابة متعلقة بسبب وراثي، ثم تبين لي فيما بعد أنها تحتاج
إلى دربة يومية وموهبة مصدرها : الكتب والحياة. لا تأتي الكتابة إلا منهما، أي لكي
تكتب عليك أن تقرأ، وعليك أن تعيش أو تنصت لتجارب الآخرين، وتكونَ "
مْشْكاكاً " في كل ما تكتب حتى ولو أعدت كتابته عشرات المرات، فإنك تظل
مقتنعا أنه غير جيد ويحتاج للتعديل. الكتابة هي إعادة الكتابة.
تتذكر بن بويا
صديقنا الأديب يوسف أبو رية الذي غادر عالمنا وهو في العقد الخامس من عمره تاركا
سبع مجموعات قصصية : الضحى العالمي وطلل النار وشتاء العري وعكس الريح وترنيمة
الدار، وخمس روايات: ليلة عرس وصمت الطواحين وعطش الصبار والجزيرة البيضاء وتل
الهوى... كنا ذات يوم نجوبُ ميدان التحرير وبادرتُه بسؤال: قلْ لي يا يوسف من أين
تأتي بأفكار رواياتك، أعرف أنها لا تنزل من السماء، بل تصعد من الأرض ؟ ابتسمَ
وقال لي: لا تريد أن تترك عنك أسئلتكَ اللولبية؛ أقول لك: أنظرْ لهذا الصَّعيدي
الذي يمشي أمامنا حاملا سلة "العِيشْ" فوق رأسه؛ إذا سرتَ خلفه طوال
اليوم، من الصبح إلى المساء، ستكتب رواية عجيبة، ونادرة واستثنائية. علقتُ سريعا:
قالها ستاندال قبلكَ يا يوسف : الرواية مرآة تجوب الشوارع.
ابتسم يوسف وواصلنا الصّعود لطلعت حرب.
أخاف أن تكون
الكتابة وَحْيا، وأنا لا أومن بها إلا بوصفها حُلما .
فهل تقبل بي
كاتبا محتملا ... مؤجلا إلى حين، لو شاء لي القدر ذلك.
أما عن الكتابة
وشواغلها، فقد كنتُ دوما ولا زلت مقتنعا من أنها لعبة ولعب. إنها ابتكار للمعنى في
عالم بلا معنى. لذلك، فمهمة الكتابة طرح الأسئلة الوجودية الكبرى: لماذا يوجد
الأدب والفنّ وما الحاجة إليهما؟ الأسئلة الكبرى لا تحتاج إلى إجابة، ربما تحتاج
فقط إلى أسئلة صغرى، وإلى عبارات بسيطة صادقة؛ قرأت هذه الأيام المحاضرة التي
ألقتها «شيمبوريسكا» في ستوكهولم أثناء تسلمها جائزة نوبل في الأدب للعام 1997
ووجدت فيها من العبر التي توسع لنا الحياة بمساحات تكمن فينا، وتدعونا للتفكير :
لماذا عليّ أن أكون كاتبا في عالم اليوم؟ وكم عليّ أن أكتب من كلمة يوميا لأصبح
روائيا بارعا ؟ وما الفرق بين كاتب متفرغ للكتابة وآخر منشغل بتوصيل أولاده
للمدرسة، وغلاء فواتير الماء والكهرباء ؟ وإذا ما حدث وأصبحتُ كاتبا معروفا واسما
مشهورا فلأنني لم أستطع تغيير العالم، بل فقط استطعت تغيير نفسي وجعلتها قادرة على
البقاء واقفة في مواجهة الحياة؛ لا يغير الأدب العالم، يوهمنا الأدب أنه يغيره،
لإنه يُعوضنا عن الخيبات التي تصفعنا بها الحياة الحقيقية؛ إذ بفضله نستطيع أن نفك
— ولو جزئيٍّا — شفرة هذه الهيروغليفية التي يشكلها الوجود بالنسبة إلى غالبية
الكائنات ، وبخاصة بالنسبة إلينا نحن المسكونين بالشك أكثر من اليقين على حدّ
تعبير الروائي البيروفي يوسا.
سلامي لكل
الأحبة: سوسو، وافيطنة الحمادية، والشيخ البرغوت، والكناوية... وبقية الشّلة؛
دمت لي - بن بويا - صديقا رائعا وفَاتِنًا.