معروف أنّ الجوائز العربية، ومن يقوم عليها، وينهي ويأمر بشأنها، إمّا روابط أدبية، أو مؤسسات ثقافية مستقلة، وأخرى حكومية، وإمّا رجل غني له باع في عالم التجارة، وله ولع برّاني في متابعة الشعر، وربما كتابة بعض السطور منه، في أوقات في فراغه، أو نهايات أيامه، وغالبه شعر كلاسيكي يفتقر إلى السبك والجزالة، أو أن هناك دولة نفطية صغيرة، تسعى إلى استقطاب الكتاب العرب نحو مدارجها، لينالوا نصيباً ماليّاً مكرّساً في جائزة، ثم يُلقوا ضوءاً من بريقهم، وشهرتهم عليها، أو هناك جهة في عالم أوروبي لها مجلة مموّلة من ميزانيّة بلد أوروبي، أو بلدية ما وراع معيّن، ترغب في جلب الأنظار إليها، فتنشئ إلى جانب المجلة جائزة عربية، أو جائزة رديفة ومثيلة، مشتقّة من جائزة أجنبية حتى بالاسم، ليلتف حولها الكتّاب، ويتبارون في الوصول إليها، ثم نيلها بالتالي، غاية في مجد أدبي ومبلغ ماليّ، يكون الأديب العربي في حاجة ماسّة إليه دون شك.في مقابل هذا، هناك جوائز تقديرية لدولة عربية معيّنة، مبلغها غير مجزٍ، لكنها جائزة تكريمية، ترفع الأديب من زاويته المنسيّة إلى بقعة وفيرة من الضوء، كما هو الحال في جوائز الدولة التقديرية، تلك التي تمنح في مصر وبعض البلدان العربية، مثل «جائزة محمود درويش» في فلسطين، و«جائزة الأركانة» في المغرب، و«جائزة الطيّب صالح» في السودان، و«جائزة أبي القاسم الشابي» في تونس.
من بين هذه الجوائز، ثمة جوائز تبدو بالغة الأهمية، لحملها المبلغ المالي المغري والوافي، ذاك الذي يسعى إليه بعض الأدباء العرب، وليس كلّهم لنيله بأيّ طريقة ووسيلة، بغية سدّ عجز ما لديهم، أو ليضفي على طريقة عيشهم، نوعاً من الطمأنينة المستوردَة، والبحبوحة الحياتية المؤقتة، مثل «جائزة البوكر» العربية و»جائزة الشيخ زايد» و»جائزة سلطان العويس».
يشير بعض النقاد والكتاب والأدباء العرب، إلى أن الجوائز الأدبية التي تحمل رقماً مالياً كبيراً، تفتقر إلى العدالة والشفافية، والنزاهة في العمل، وتدار بطرائق ملتوية، كأنما تقف وراءها عصبة سرية، غايتها الحفاظ على عملها المدار من قبلها، كلجنة التحكيم ولجنة القراءة، وربما هناك لجان للمتابعة والتنسيق والفرز والحفظ. كل هؤلاء يعرفون بعضهم، ويتنادون إلى لجان الجوائز، هم أنفسهم، ليمنحوا في المآل الجائزة لمقرّب منهم، من رؤيتهم وتفكيرهم ونهجهم الأدبي، أو هم من يرتأونه، ويفضّلونه، لأسباب كثيرة، جلّها غير أدبي، كأن ينالها من لهم توصية، أوعلاقة وطيدة برئيس اللجنة، أو أحد أعضاء لجان التحكيم المسموع صوتهم، ممن يمتلكون النفوذ الواسع، والرأي المُهيمن، والصيت الطاغي على البقية، أو عبر توصية نافذة تأتي غالباً من خارج الدائرة المنوطة بالعمل الأدبي.
لهذا لجان هذه الجوائز، لا تنظر إلى العمل المقدّم للفحص والمتابعة والقراءة، من خلال أهميته الإبداعية، فليس في وسعها قراءة ما بين الستمئة والسبعمئة رواية ونص أدبي، خلال ستة شهور.
اللافت في جائزة «البوكر» العربية، أن بعض الشباب الذين نالوها، كان حضورهم ونشاطهم الإعلامي، والروائي والكتابي واضحاً وبارزاً، قبل نيلهم الجائزة، من ناحية الإصدارات الجديدة، عمل روائي كل عامين أو عام، حضور لافت في الصحافة، تصريحات وندوات ثقافية، كتابة أعمدة ثقافية، مقابلات في الصحف، والقنوات التلفزيونية، لكن كل هذا سيتبخّر ويغيب، حين يحصل أحدهم على الجائزة. بمرور سنوات ثلاث، أو عقد من الزمن، سيُنسى ذلك الروائي الشاب، الذي كان يصدّر رواية كل عام، ويهيم اختيالاً، وهو يقفز في الهواء، من محطة فضائية الى أخرى، ليرافقه اسمه الضوئي، وهو يعبر المجلات والصحف، حتى الندوات الثقافية، التي تُجرى هنا وهناك، ستتداوله وتشير إليه، صوره تكون قد ملأت وسائل التواصل الاجتماعي، والميديا الإلكترونية السريعة، لكنه في المنتهى سيذهب سريعاً، ويختفي ليُنسى، كما الميديا سريعة الزوال.
لا أريد هنا أن أذكر بعض الأسماء، لكيلا أوقظها من غفوتها، بعد نيل الجائزة، هذا ناهيك ممّن نالها وهو متقدّم، أو متقدّمة في السن، لكن بعد نيل الجائزة تقاعدوا عن الكتابة، وغابوا عن وسائل الإعلام والنشر، والمنابزة الكلامية والصحافية، في السر والعلن.
والسؤال الذي يخامرني في هذا المجال، ألا يوجد رافضون للجوائز؟ كما حصل مع المفكّر والأديب، والفيلسوف الوجودي الشهير جان بول سارتر، الذي رفض جائزة بحجم نوبل، وهو الوحيد الذي رفضها. تُرى كم كان كبيراً، وعظيماً هذا المفكر الفرنسي المثالي والاستثنائي، الذي صرّح بعد منحه الجائزة، معللا سبب رفضه إياها، بأنها جاءت لتتوّجه وهو حي، وفي أوج عطائه الإبداعي، وأنه لديه العديد والكثير من المشاريع المستقبلية، تلك التي ستتحوّل إلى كتب.
كان سارتر يتخيّل ويتصوّر أن الجائزة سوف تقضي على عطائه الإبداعي، وتشلّه عن الكتابة، كونه قد وصل إلى النهاية، وسيكف حين يقبلها، عن العطاء الفكري والفلسفي والأدبي. بالطبع البعض سيقول هذا سارتر، وليس أحدا سواه، وبوسعه أن يحطّ من مستوى أي جائزة، حتى لو كانت نوبل العالمية، يحطّ من سمعتها، وقيمتها الفنية والأدبية والمالية، مثلما حطّ بفلسفته وفكره وأدبه، من قيمة فلاسفة لامعين ومشهورين، كانوا موجودين قبله، سطعوا في زمن سابق عليه، بفلسفتهم وأفكارهم، ورؤاهم التي شغلت العالم.
نتذكر على الصعيد العربي، رفض الروائي المصري صنع الله إبراهيم لجائزة «الرواية العربية» في مصر، ونتذكر الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف الذي رفض «جائزة سلطان العويس» معنوياً، لكن من الناحية المالية، أودع قيمة الجائزة في حسابه الخاص. ربما جاء رفض سعدي يوسف للجائزة متأخّراً، وكان قد قضم ما قضم من مالها المدفوع، فجاء رفضه لها ناقصاً، وغير مكتمل، وفي غير أوانه. في السياق ذاته، برزت في سنوات التسعينيات من القرن المنصرم، وصولاً للألفية الثانية، جوائز الطغاة «جائزة صدام حسين» التي نالها كتاب عرب وأوروبيون، بينما رفضها محمد عابد الجابري، صاحب كتاب «نقد العقل العربي» وهو فيلسوف وباحث ومفكر مغربي، كرّس جلّ حياته، في سبيل البحث الفلسفي الرصين، والحِجاج والجدل، والفكر التنويري، وقد تجلى ذلك في كتب عدّة، دانت الاستبداد والتفكير الأعمى، والأزمنة العربية الجاهلية.
أما الجائزة العالمية الثانية، فهي جائزة العقيد معمر القذافي، التي نالها مفكرون أجانب، وعرب معروفون بأفكارهم اليسارية. جائزة القذافي حملت رقماً مالياً كبيراً، نالها الناقد المصري جابر عصفور، بينما رفضها وبإباء، المفكر محمد عابد الجابري والروائي الإسباني خوان غويتسولو، ولا نريد هنا أن ندخل في سيرة القذافي، فهي معروفة للجميع. لكن الذي يُحيّر في الأمر، هو قضية صديقنا وناقدنا الراحل جابر عصفور، وكما عرفته فهو رجل يساري، ناقد ومتمكّن جدّاً، وناجح في عمله الفكري والنقدي، محترم من جميع الأطراف الأدبية، شعرية وروائية ونقدية وبحثية، والسؤال هو كيف قبل بجائزة القذافي؟ وهو وزير سابق، ناهيك من صيته الأدبي والفكري والنقدي، كيف يقبل بشيء معطى من طاغية؟ هل هو المبلغ المالي الكبير المسيل للعاب؟ هذا الذي سيتحوّل إلى ملايين، وفق حسابات الجنيه المصري، أم أن هناك حسابات أخرى؟
كاتب عراقي