مهما تعددت مدارس الشعر ومذاهبه، وكيفما كانت الرؤية تجاه الإيقاع أو التفعيلة أو الوزن والقافية، واختلفت الآراء حول تعريف الصورة في حد ذاتها، يبقى اتفاقٌ على أن أهم عنصرٍ من عناصرِ العملية الشعرية والإبداعية، هو: «الصورة» وليس الأمر على هذا النحو فحسب، بل يجب أن تؤدي الصورة دوراً «تأويلياً» حتى تتحققَ الوظيفة: «الشعرية». فالعلاقة بين الشعرية والتأويل على قدرٍ كبير من الأهمية، يقول (تزيفتان تودوروف): «إن العلاقة بين الشعرية والتأويل هي بامتياز علاقة تكامل» وباعتبار أن عنصري: الصورة والتأويل أهم عناصر العمل الإبداعي الشعري؛ نتأمل ديوان: «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» لسامر أبو هواش» للإجابة عن سؤال يبدو فارضاً نفسه في هذا النص، وهو: هل نجح «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» في أن يتجاوز أفق «العادية» وينسج عبر علاقاتِه ببعضه بعضاً، أو بنصوص أخرى، نوعاً من الجمالية؟ وهل قدم صوراً وتعبيراتٍ وأخيلةً تنتج عنها رؤية جمالية؟ بمعنى آخر: هل يمكننا أن نقول عن النص المقدم هنا إنه: «شعر»؟ أم هو مجرد «رصٍّ وتكديس» للألفاظ مع بعضها بعضاً، دون قدرةٍ على إيجادِ علاقاتٍ جديدة بينها، أو تكوين صورة مبهرة منها؟
نبدأ من العنونة، التي تفترض السيميولوجيا عادةً أنها مفتاحٌ أساسيٌّ للولوج لعالم النص، ولسبر أعماقه، فهو أولى الدلائل الإرشادية للخريطة النصية، وعلامة مرجعية تحيل للنص وتختزله كمفهومٍ في الذهن، كما أن له وظيفة الإفهام أيضاً. فيجب على العنوان أن يكون شارحاً ومضيئاً للنصّ، بجانبِ ما يبنيه من علاقات تركيبية ودلالية وتداولية مع عناوين أخرى، أو مع سياقاتٍ أخرى، وتبدو تسمية «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» موحية بنوع من الجاذبية والتشويق للقارئ، كما أنها عصرية، وترتبط بتعريب مصطلحٍ ظهر مع تطور الهواتف المحمولة، هو فعل تصوير النفس من خلال الكاميرا الأمامية للهاتف، ولعلها مفارقة ربما لم ينتبه إليها الشاعر هنا، أن أحد أهم أدوار الشعر أيضاً هو «التصوير» ومن ثم فإن عملية الـ«سيلفي» هنا يجدر أن تتم بشكل مضاعف، مرةً عبر الإحالة للفعل في الحياة الواقعية، ومرة عبر التصوير من خلال الشعر ذاته، لكن رغم جاذبية العنونة؛ فإنها تلقي بحملٍ ثقيلٍ على النص، فهذا النص مطلوب منه أن يكون انعكاساً لحالةِ توثيق احتضار العالم، ومطلوب منه أن يصوّر مؤلفه وهو يعيش آخر لحظات العالم، وبما أن المؤلف ذاته جزءٌ من العالم، فمن البديهي أن يوثق النص أيضاً احتضار صاحبه، وهنا فإن عملية التوقع بشاعرية مبهجة عملية مرفوضة، ولا تتسق مع ثنايا النص؛ ترى هل كان المؤلف هنا مدركاً لخطورة ما تفرضه العنونة على نصه من تبعاتٍ تأويلية؟
لقد اتخذ النصُ صيغةَ القصيدة الواحدة الطويلة، وليس لها عنونة سوى عنوان الديوان ذاته، فليس هناك أي عتبات داخلية تحيل أو ترشد القارئ لأي اتجاه، فقط هذا العنوان السابق، ثم ستةٌ وستونَ مَقطعاً شعرياً، في كل صفحةٍ مقطعٌ منفصل – أو هكذا نفترض فليس ثمة ما يوضح بداية ونهاية المقاطع- يتراوحُ بين القِصر والطول، حيثُ يرد أقلها في الصفحة الثالثة والعشرين، من ثلاثة أسطرٍ وإحدى عشرة كلمة، أما أكثرها فيأتي في الصفحةُ التاسعةُ والأربعين، مع خمسة عشر سطراً، وتتكون من إحدى وخمسين كلمةً؛ وقد أوردتُ الأعداد لأنها بدت لي السبب بالشعور بـ«التفسُّخ النصيِّ» في فضاء القصيدة، ففي ظل اعتبار النص كله جزءاً من قصيدة طويلة، فعلى أي أساس ننظر لكل صفحة في أسطرها الشعرية؟ هل هي مقطع منفصل بذاته؟ قائم على وحدة شعورية مستقلة بنفسها عن باقي الوحدات الشعورية؟ وأي مشاعر يجدر أن نستحضرها مع حالة الاحتضار التي فرضها علينا المؤلف؟ أم هي تكملة وتضافر مع المعنى الرئيسي الذاهب إلى فكرة الموت والأفول؟ كيف يفسر القارئ زيادة تدفق الكلمات في صفحة، وقِلَّتها في أخرى؟ كيف يولِّد القارئ المعنى من هذه الفراغات بين البياض والسواد على الورقة، فمع عدم وجود مؤشر واضح لحالة الطول والقصر، فإننا في حالة «تيه نصي».
وإذا ما وافقنا جين. ب. تومبكيز، أن المعنى الأدبي يأتي أساساً من استجابة القارئ للنص، وأنه ليس من مجالٍ للتأويل الذاتيِّ دون وجود إشارات واضحة المعالم لما يجب أن يتم استنباطه، فإنه يتضح لنا أن هذا النص غارقٌ في حالةٍ كبيرةٍ من حالات اللامعنى، واللامفهوم، ويبعد بشكل كبير عن الشعر وعن الشعرية.
فلنلقِ الضوء أكثر عبر تحليل النصين المشار إليهما، نبدأ بالنص القصير، الذي يقول فيه:
«ترى البكاء أخيراً
شعوباً من كنزات مبللة
نسيها أصحابها على السطوح»
يأتي هذا النص بعد وصفٍ لحالةٍ من حالات الانتظار الطويل الذي يقوم به الشاعر، وبعد جلوسه فترةً طويلة يستمع لمختلف الأصوات المتناهيةِ إلى أذنيه، من خبط الثلاجة، أو شجار الجيران، أو تأمل الحذاء في مجلسه بالقرب من السرير، إنه استماع بصخب لـ «هدير حيوات» على حد وصفه، وبعد التدرج بين الطول والقصر، في الوصف، الذي لا نجد فيه أي صور جمالية يمكن الإمساك بها، وإنما نوع من «العادية» والتقليدية، يُنتزع أحياناً من سياقات تعبيره الواضحة المعبرة، لكي يقدم منها ويؤخر، في محاولةٍ لرسم صورة باهتة تدور حول الاحتضار، كقوله: «إلا أن السقف، منذ البارحة، ما عاد يرشح دماً، بل جثثاً» أو تصويره للصيف بأنه «سلسلة من القتلة» وغيرها من الوصف غير الموفق، وسبب عدم توفيقه انقطاع الدلالة في امتداد الصورة، فما يبدأ به، لا يعود على ما يختم به! والمفترض أن هذين المتناقضين يكوّنان صورةً معاً، رغمَ عدمِ وجودِ علاقةٍ يمكن أن تجمعهما، حتى علاقة التضاد!
وبعد هذه التعرجات الوصفية، تأتي هذه الصورة القصيرة، التي تحاولُ أن تصف لنا البكاء، إنه يحاولُ أن يجعلنا نعتقد أنه بكاءٌ غزير، كالماء المتساقطِ من ملابس مغسولة، لكن المشكلة أن هواش يفسدُ صوره دائماً بالخلل المنطقي، وهو أمر متعب للقارئ، الذي يتصور أنه بدأ في التقاط خيوط صورةٍ جيدة ومتماسكة، يجد ما بعدها ينفيها ويغلق فهمها تماماً! وربما لو لم يحاول أن يقدم تأكيداً منطقياً للصورة، وتركها مطلقةً لكان أفضل، فالحقيقة أن أي ملابس ينساها أصحابُها على السطوح، سوف تجف بعد فترة بسيطة، ولن تنزل منها أي نقطة ماء، فكيف لنا أن نتخيل البكاء وهو يأتي منهمراً غزيراً من ملابسَ جافة؟ لو كان أعرض في صورته عن ذكر نسيان أصحاب هذه الملابس، ولم يحل العقل إلى الفترة الزمنية الطويلة، التي ستؤدي – بديهياً- لنقيضِ ما يرغب في أن يذكره؛ لكانت الصورة جميلة ومقبولة.
وجدير بالذكر أن هذا التنافر المنطقي دائم الحضور، فما إن يقدم صورة، حتى يعود وينقضها، مثل قوله: «عيون تحاول ابتلاع الضوء/ كأفواه أسماك جائعة» ولا نعرف تحديدا سر اختيار الأسماك؟ فأي أفواه جائعة تؤدي الغرض في الإشارة إلى اللهفة، التي ربما هي ما يحاول أن يشبه بها رغبة العيون في النظر للضوء، أيضاً لا نعرف إن كان يقصد الضوء بمعناه الحقيقي أم يقصده كإشارة لحالة ما، كالحرية مثلا؟ دائماً هناك ما ينتقص منطقية الصورة، ويمنع فهمها، فهو لا يقدم ما يكمل تكوين صورته على النحو الجمالي، مثلا يقول:
«أعمار مقصوفة،
أعمار معلقة،
على حبل غسيل مرتجل؛
الموت
بائع آيس كريم ضاحك
يجوب العالم/
بحثا عن قبعته الضائعة»
وأتساءل هنا، ما المعنى؟ إن أحد أهم النقاط التي يبحث عنها الناقد في النص الأدبي -أي نص أدبي وليس النص الشعري حسب- هي العلاقات. كيفية بناء العلاقات بين الكلمات والألفاظ والمعاني، وكيف يشكل كل ذلك معنىً جزئياً، ثم معنىً كلياً، ثم رسالةً، نحكم بعد ذلك على إبداعيتها أو شاعريتها، عندما تخالف العادي والمألوف، وعندما تبتعد عن استخدامات اليومي والعادي لتأتي في سياقاتٍ جديدة، أو نحكم بعاديتها، في حالة تشابهها مع السياقات اليومية، واقترابها من استخدامات رجل الشارع العادي، وعلى النص أن يقنعنا بمنطقه الذي يفرضه، وعلى هذا أتساءل: لماذا يبحث بائع الآيس كريم عن قبعته؟ وهل نسيها في مكان ما من أماكن العالم وهو يعود للبحث عنها؟ ما هذا التشبيه الذي يعطي نوعاً من التداخل المغلق في فهم الصورة؟ كيف نفهم الموت بصفته بائع آيس كريم، يطوف العالم، بحثاً عن القبعة المفقودة؟ إن كل مرة نحاول فيها أن نظفر بمعنى ما، أو صورة ما، نجدها اختفت من بين يدينا، وضاعت الفكرة الرئيسة التي يدور الديوان حولها.
فلنجرب مجدداً مع النص الأطول! يقول فيه:
«فلنعد للمشهد،
فلنعده قليلاً إلى الوراء،
ليس إلى أية صرخة،
ليس إلى أية عتمة،
ليس إلى البدايات المربكة
لعطلاتٍ اختفى معظم أبطالها،
ليس إلى إطلاق رصاص احتفالي كثيف،
في مساء غامض من الثمانينات،
فلنذهب أبعد،
أو أقرب،
فلنجمد المشهد هنا
حيث مطر عادي
منحناه بطيب خاطر
ذات يوم عادي
جميع ترهاتنا»
إذن يحاولُ هذا المقطعُ أن يحيلنا إلى سياقٍ تأريخيٍّ، هذا ما نفهمه أو نحاول أن نفهمه بفكرة العودة إلى الزمن، لكن أي سياق تأريخي يحاول أن يعودَ إليهِ تحديداً؟ الرقم الوحيد البارز الواضح الذي يفرض نفسه هنا هو «الثمانينيات» وبينما منطقياً تظهر لغة الأرقام دائماً بوصفها اللغة الخاصة بالحقائق التي لا تحتمل معها التأويلات، أي أن الثمانينيات لا تحتمل أن تكون التسعينيات أو السبعينيات، وإنما هي الثمانينيات حسب، بعكس الصبر مثلاً، يحتمل أن يكون فعلاً شجاعاً دالاً على قدرة صاحبه على التحمل، أو دالاً على المرارة، وقلة الحيلة، لكن لغة الأرقام ليست كذلك، ومن ثم فإن السؤال المحير، إذا لم يكن الشاعر يرغب في أن يحيل تفكيرنا إلى حقبة الثمانينيات ويرغب في أن يستحضرها هنا، فلماذا أشار إليها أساساً؟!
ما الحكمة من استحضار تاريخ، ثم السماح بالذهاب إلى أبعد منه أو أقرب، ما الحكمة من استحضار أشياء ثم تجاوزها، وإذا كانت العبارة الشعرية تقوم أساساً على التكثيف ومغايرة المألوف، فكيف نفهم «العادية» التي يختم بها فقرته هنا؟
إن ديوان «سيلفي أخيرة مع عالم يحتضر» هو تجميعٌ للمتناقضات المنطقية التي لا يمكن أن يتكون منها جمالٌ إبداعيٌّ، وتكديسٌ لمجموعةٍ من العبارات والألفاظ التي لا تستطيع أن ترتبط معاً بعلاقة تأليفية، وهو ما يذكّرنا بالمقولة التي تحاول أن تنفي المصادفة من أنه لا يمكن بالمصادفة عبر العبث على أزرار الحاسوب أن تتم كتابة قصيدة! لكن يبدو هنا أن الأمر معكوس، فهناك من رغب في أن يكتب قصيدة، فقام بالضغط بعبث على أزرار الحاسوب ليستحضر من قاموس اللغة كلماتٍ دون القدرة على تكوين صور جمالية، أو إيقاعات معنوية ومنطقية منها، ناهيك من التنافر الصوتي والثقل، لذا أرى أن هذا النص يحتفظ لنفسه بدرجة هائلة من «العادية» والعادية في أقل حالاتها الممكنة وضوحاً وتواصلاً، ويصعب أن نعتبره عملاً جمالياً أو شعرياً من الأساس.
شاعر وناقد مصري