هو كان رجل الاختصار، رجل القضايا المعلقة، رجل العبور المار ليلًا في قطارات الهروب، رجل النقاط الحازمة التي تنهي السطور بترفع، تشي هامته الطويلة بنفس أبية، بينما يشي نحوله ولمعان عينيه بطبع ناري ليس من السهل إخماد براكينه، وبين هذا وذاك كان لصمته محطات كثيرة لا أحد يمكنه أن يسبر أغوار عمقها.
هي كانت امرأة الخوف.. لا تكاد تشغل مكان فاصلة تتكئ بحياء على السطر لتفصل بين جملتين متقاربتين، امرأة الأرض الساكنة التي توقفت عن الثورة وربما عن الدوران منذ عصور، امرأة الرغبات الأرضية بكل ما فيها من تهميش وتضليل، لا تعرف الصمت هي، ولا تجيد قراءته كما ينبغي، حتى أنها لا تأخذه على محمل الجد هو الذي يحمل في طياته ألف حديث وحديث يصعب على مثلها أن تسبر أغوار معانيه المختبئة خلف السكون، سليلة التردد هي، وليس في مقدورها أن تمشي خطواتها إلى الأمام إلا بعد أن تتراجع إلى الوراء بما يكفي لتكون محصلة التقدم تساوي صفرًا، ولتظل تراوح في مكانها إلى الأبد.
على هامش الحياة التقيا قليلًا، قليلًا بما يكفي للقاء عابر دام دهرًا، بهرها عنفوانه، شدها كبرياؤه، ارتعدت إعجابًا بتحليقه في سماء الفتنة، وأذهلتها حدته عندما يعلن قراره دون خوف، بهرته هو بساطتها وأعجبه انبهارها بكل تفاصيله حتى تلك التي لا تستحق.
قالت له: أهلي لن يرضوا بك فأنت تنتمي لديانة أخرى، وليس من طبعهم أن يحلقوا في سماوات بعيدة عن ها هنا، ولا أن يبحثوا في خرائط أخرى تدعي وجودها على وجه الكون!
قال لها: إن لم تحلقي للسماء لن تنزل السماء إليك، إن لم توغلي في أعماق البحر لن يفتح هو لك ذراعيه ويتوجك بانكسار أمواجه عند الغروب حورية بحر، والقرار لك.
أرادت أن تكون له، أرادت أن تكون مثله، أغرتها فكره الإيغال في الماء الأزرق، وأحبت أن تقلده فتنتعل ظل قرار تبتر فيه ما تعرفه عن نفسها من تردد، لم يكن يعنيها أن يكون قرارها الأول مضلِلًا يقف على تخوم هاوية، فهو قرار على أية حال، وسوف تختبئ منه خلف هذا المغامر الصامت ليحميها من زوابع تبعاته وعواصفها، ولأنه كان أول قرار يخبرها أحدهم أن عليها أن تتخذه وحدها لم تتردد وهي تتبع خطواته للمرة الأولى من عمرها القصير الذي قضته مختبئة خلف قرارات غيرها، فغادرتهم ذات شمس بدون حقيبة سفر، فقط تركت ملاحظة صغيرة:
- اعذروني .. أريد أن أرى علو السماء وعمق البحر، أحبكم جميعًا.
طوت مسافات الاختلاف على جناح المحبة، وانتعلت آمالًا ترفعها نحو السماء بأجنحة ورقية، ومشت تستظل بقرار لم يكن يتناسب وقياسات معتقداتها، ثم تأبطت كبرياءه وركبا أول طائرة للفرح تقلع باتجاه أحلامهما الصغيرة الدافئة على صوت انبهارها به يعلن أن على ركاب طائرة الشوق حزم أمرهم والصعود إليها دون تردد.
لم يكن ثمة غيرهما على متنها، وبضع تفاصيل أخرى مهملة - لم تكن تستحق التفكير بالنسبة إليه - شغلتها حد الهلوسة، حد سرقة التفاصيل ورسمها على حدقتيها، وحد الانشغال عن المطبات القاسية التي تنذر بالمرور عما قليل بعلاقة تبحث عن شرعيتها في ظلال الخوف، وتحت تضاريس حلم هارب من أزقة الوهم.
ثم هبطت الطائرة على مطار الحياة اليومية، وعلى مدرجها الوعر بدأت طقوسهما تبدي اختلافًا شرسًا، يسير بأحلامهما في اتجاهين متعاكسين تمامًا، فتبتعد نقطة التلاقي وتضمحل، لتبقى الخيبة معلنة عن حضورها في كل لحظة وعند كل منعطف، وبدأت هي تهوي من علياء السماء بسرعة مخيفة، فاقدة مظلة النجاة تلك التي تركتها ذات يوم مع ورقة صغيرة لتغوص في البحر، باحثة عن لآلئ لن تطالها مهما أوغلت في يم هذا الغريب.
سألته مرارًا: ماذا تحب أن أطبخ للغداء؟ هل تريد أن أجهز لك الحمام لدى عودتك؟ هل يحتاج قميصك إلى غسيل؟ وهل تحتاج أحلامنا إلى كي؟ أي أرض ننتظر لترسو سفينتنا عليها فنشعر بالرسوخ؟ وأي شيء ينفض الخوف من قلبي؟
هو سألها: أيكفيك هذا العلو أم تريدين أن نحلق أكثر؟ هل كانت السماء زرقاء كما ينبغي لعيون حبيبتي؟ هل أحببت السير فوق الغمام؟ وهل علينا فعلًا أن نشعر برسوخ الأرض والسماء تحتوينا على امتداد أحلامنا؟
ثمة هوة كبيرة متسعة بينهما بدأت تنفرج أكثر فأكثر، تأخذهما على حافتيها لتتسع مسافة البعد، تمد هي ذراعيها لتتمسك به فلا يستطيع امتداد الذراعين اختراق مساحات البعد والوصول إليه، فتغرق في الحزن كل يوم أكثر، على حافة تلك الهوة كانت الخيبة تتربص بكل منهما على حدة، كل بحسب أحلامه ومعتقداته وتفاصيله الصغيرة التي لم يفلح بتجاوزها، لم يستطع هو أن يبني لها جسرًا من دقات قلبه، لم تستطع هي القفز فوق تلك الهوة فقد كانت أوسع من قدرتها على التحليق، كانت تنفلت من بين يديه وهولا يستطيع شيئًا لإيقاف ذلك السيل الجارف من الجفاء المار بينهما.
ذات يوم قال لها: دعك من الغذاء، دعك من قميصي، سأصوم دهرًا إن أنت شاركتني حياتي، شاركيني جنوني.. شاركيني حزني.. اغسليني بدموعك وسأغدو وليًا، ابتريني بحزمك ولتتركي بي عاهة لا أبالي، لا تقفي متفرجة هكذا أريدك معي في كل خطوة أخطوها.
لم تفهمِ شيئًا مما قاله وقفت وهي سادرة اللب.. لم تع ما الذي عليها أن تفعله عدا تجهيز الغذاء وترتيب أمور المنزل، والجلوس على حافة حلم ينهار بانتظار معجزة ما تعيد رتق ما تهرأ من أطرافه.. فاستفاضت حيرة .
بعد شهور لم يلتقيا فيها إلا على حافة سرير، لم يتحدثا إلا بضع كلمات لا تعني شيئًا، غلبتهما الغربة واحتلت الحيرة زوايا منزلهما الصغير، وإذا به ذات قرار باتر يجيد صنعه تمامًا يحضر لها الجريدة التي اعتاد أن يكتب فيها، رماها في حضنها دون أن ينبس ببنت شفة ومضى صامتًا نحو سرير الغربة.
فتحت الجريدة، توجهت إلى زاويته، كان عنوانها "الموت صمتًا" تتحدث عن فجيعة الحب غربةً بين حبيبين لا يمتلكان لغة ما، عن حبيبين يتحدثان لغتين مختلفتين تمامًا، عن انتحار الشوق في لوعة الاختلاف، عن اغتيال العشق في حضرة الصمت، عن جنازة الحب المتواضعة التي لم تكن تليق أبدًا بعلاقة كتلك.
هي.. لمّت حقيبة الخيبة، ودون حتى ملاحظة صغيرة تعلن فيها وداعًا موجعًا، عادت أدراجها منتعلة حزنها على طائرة الندم.
*شاعرة وفنانة تشكيلية سورية/ هولندية.