العيد والحرب إعادة خلق للعالم :محمد أبخوش
لعل ما يسترعي انتباه الباحث والمتتبع اليوم للأحداث العالمية هو هذا
اللجوء المتنامي والمتصاعد
للإنسان نحو ممارسة العنف بكل أشكاله وكأن قدر الانسان أن
يتحول من كائن عاقل إلى كائن عدواني بامتياز. العنف يتجسد أكثر في أخطر أشكاله المتمثلة
في الحروب والتي اشتعلت خاصة بعد نهاية عالم القطبين. حروب اثنية وحروب عرقية وأخرى
دينية.
ما يقلق اليوم في منطقتنا هو هذه الحروب المتزامنة والتي أعقبت ما اصطلح
عليه ربيعا عربيا، حروب في منطقة واحدة لا تترك مجالا للصدفة، حروب مفتعلة لكونها تندلع
في منطقة حساسة سياسيا واقتصاديا.
لا تتوخى هذه القراءة للحدث مقاربته سياسيا وتحليله في اطار استراتيجيات
الكبار وموازين القوى إلى آخره، بل سنحاول النظر إليه من خلال بحث في جذور الظاهرة
الانسانية من خلال مقاربة بسيطة لحدثين انسانيين بامتياز:العيد والحرب
العود الأبدي
من الأساطير المؤسسة للثقافة الانسانية أسطورة العود الأبدي وخلق العالم،
فاذا كانت الديانات التوحيدية قد انتصرت لفكرة خلق العالم مرة واحدة بفعل إلهي فان
الثقافة الانسانية حافلة بجملة من الاساطير التي تتحدث عن هذا الزمان: الزمان الأول،
زمن خلق العالم وتأثيثه، الزمان الأصلي الذي لا ينفك العالم ينفصل عنه بل هو في اتصال
مباشر به من خلال الأساطير والطقوس المصاحبة لها والتي تعيد العالم الى لحظة الخلق
من خلال الاحتفالات السنوية والدورية التي تنحو الى هذه الغاية وهي اعادة الفعل الأول
للخلق وإعادة العالم الى زمن الصفر زمن البدايات الكبرى.
موضوع اعادة خلق العالم موضوع
انتربولوجي وسوسيولوجي بالرغم من اختلاف المقاربتين. فعلاقة التخصصين بالموضوع ناتجة
من الموضوع نفسه وانعكاساته على الصعيد الاجتماعي. أساطير إعادة خلق العالم تجد لها
ترجمة في طقوس واحتفالات الجماعات البشرية الدورية والسنوية، لذلك يدرس الأنتربولوجي
هذه الطقوس والأساطير في أبعادها المتعددة بينما يكتفي السوسيولوجي بالدور الذي تلعبه
في حياة الجماعة البشرية. والأسطورة واقع ثقافي جد معقد كما يمكن أن يتناول ويؤول من
منظورات متعددة ومتكاملة.
بالرغم من غياب أي حدث يضاهي العيد من ناحية
الأهمية والدور الذي يلعبه إلا أننا سنحاول أن نستنبط بعض أوجه التشابه ما بين العيد
والحرب. العيد مكرس للحياة والفرح في حين أن الحرب طوفان للموت ورفض للحياة، لا وجه
للتشابه لا من ناحية المعنى ولا من ناحية المحتوى.
كيف يمكننا مقاربة هذين المتناقضين وايجاد ما يجمع بينهما؟؟
العيد (الاحتفال) عند البدائيين
لعل الميزة الرئيسية للعيد البدائي تتمثل في كونه زمن للإفراط والاسراف
والتبذير، يشهد هذا الزمان تبذيرا للثروات التي ثم جمعها على مدار حقبة زمنية طويلة
المؤن الفردية والجماعية في خدمة الاحتفال فلا حاجة تتمتع بالأهمية أكثر من الحدث نفسه.
وهناك ميزة ثانية لا تقل أهمية عن الأولى تتمثل في انتهاك المقدسات والشرائع والمحرمات
التي تتأسس عليها الحياة الاجتماعية. في العيد تحل محل الطابوهات القديمة أخرى جديدة
طابوهات من نوع آخر وذات دلالات أخرى نوع من التأسيس لنظام جديد لا يتوخى التهدئة وتجنب
الانفعالات الحادة بل اثارتها وتصعيد وثيرتها الى أقصى الحدود. إنه خروج من الزمن الأصلي
الى زمان قادر على اعادة خلق العالم واعادة الفتوة اليه وتطهيره، لذلك تصبح كل التجاوزات
مباحة وأعمال العنف والتبذير المادية منها والمعنوية هي القادرة على نقل العالم الى الزمان المقدس زمن
البدايات زمن الخلق وإخراجه من حالة الانهاك والتعب وبعثه بعنفوان جديد.
إذا كان زمان العيد زمانا استثنائيا في الحضارات القديمة فلاشيء يضاهيه
اليوم في حضاراتنا المعاصرة سوى زمان الحرب. ففي الحرب تختفي كل مظاهر الحياة العادية
والمعتادة تنقلب كل تلك الرتابة المعهودة الى حالة من التوتر والانفعال وتظهر للوجود
سلوكات وأفعال مستبعدة ومبعدة.
الحرب أو الوجه القاتم للعيد
اذا كان زمن العيد استثنائيا لحظة للتوتر في الحياة الاجتماعية تجييش
واستدعاء للأفراد تظافر لكل الجهود والطاقات قطع مع الحياة العادية اقتلاع للفرد من
وسطه العائلي والمهني من اهتماماته الشخصية والاجتماعية، فكذلك زمن الحرب هو زمان تتبذل
فيه المجتمعات تتوتر وتتغير.
هناك أوجه متعددة للتشابه بين العيد والحرب: هما الاثنين يؤديان الى امتصاص
الجماعة للفرد، تنفتح فترة متميزة في الزمان ينسلخ فيها الانسان عن نشاطاته واهتماماته
اليومية ليندمج في العمل والنشاط الجماعي ويصبح مشاركا بطاقته ومعداته وموارده يتوقف
الزمن الفردي ويبدأ الزمان الجماعي.
في زمان الحرب كما زمان العيد تبرز معايير جديدة يتغير كل شيء، تنقلب
المعايير رأسا على عقب، كل ما كان محرما يصبح مباحا: قتل العدو يجلب المجد والشهرة،
كل القيم الأخلاقية التي يناضل الآباء لتلقينها لأبنائهم تصبح فجأة مباحة، ما نهى عنه
القانون وحرمه: الاحتيال ، الكذب ، السرقة، كلها تصبح أمرا مباحا والقتل يكافئ عليه
إنه الزمان الاستثنائي. فكأن فرحة التدمير المكبوت قد تفجرت، عنف نهت كل الشرائع والقوانين
والمجتمع عنه وناضلت ، عنف حرم الانسان من ممارسته منذ مدة ، يتحرر لوهلة لتصبح المتعة
في القتل والايذاء فكأن الغرائز المكبوتة قد تحررت.
كل شيء مباح، يصبح الخصم طريدة للصيد لا قوانين في الحرب والقتل هو القاعدة
الأولى. القتل في الحرب ليس هو القتل الاجرامي انه شبيه بالتضحية في العيد. لا حرمة
للميت لا محظورات لا انحناءات ولا اجلال تصبح
الجثت معرضة للتنكيل للرفس والإهانة، انها
فرصة اخرى للغرائز المكبوتة لتفعل فعلها.
تبذير لا يوازيه شيء في المشاعر وتجاوز للمحظورات يشبه الى حد كبير ما
يقع زمن العيد، تبذير وإسراف في ثروة استغرق جمعها ردحا من الزمان تبذير في الأكل،
كالتبذير في القذائف والترسانات الحربية، كل
شيء يصبح في خدمة الهدف لا قيمة للثروة إلا
أن تلقى في هاوية الحرب. كل مايبذر في العيد له نفس قيمة ما يبذر في الحرب.
العيد والحرب : ميلاد للعالم
يمكن القول أن التشابه الوحيد والمهم هو صفة العظمة المطلقة والوظيفة
التي يؤديها كل من العيد والحرب على الصعيد الاجتماعي.
كان للأعياد في حياة الشعوب القديمة دور ربط الصلة بالبدايات الأولى، ليس العيد
ذكرى حدث غابر في الزمان بل العيد هو هذا الزمان حيث يخلق العالم من جديد هذه الدورة
اللامتناهية لعالم يخلق بعد أن يضعف ويهرم فيصير لخلق جديد. ربط الصلة باللحظة الأولى
وتكرارها تحكمت في تصور الانسان القديم للزمان، زمن دائري يعود إلى بدايته بعد أن يكمل
الدوران حول نفسه، عدو للتاريخ لا استمرارية بل عود أبدي. مابين عيد وآخر أيام جوفاء،
فالعيد ينشأ القطع في حياة الأمم ويفتح كل
مرة عهدا جديدا. وكذا الحرب في زماننا أصبحت كما العيد قديما، تطرح عالما قديما وتؤرخ
لولادة آخر، زمن ما قبل الحرب ليس كزمن ما بعدها، يتبدل فيه نمط العيش بالرخاء أو بالقحط،
تتعافى الأمم أو تصير في أسفل الدرجات ( في الحرب ليس هناك منتصر ومنهزم)
تزخر الأساطير القديمة بنماذج تصلح لعقد مقارنة بينها وبين العيد، الحرب
بمثابة إلهة الخصب التراجيدية حالة مخاض هائل، والشعوب كما الأم التي تخاطر بحياتها
من أجل صغيرها لا بد أن تدفع ضريبة الدم كي تبني كيانها و تستمر.(تموز لذى البابليين
كمثال)
فالحرب تفجر نظاما مشلولا ومحتضرا وتجبر الانسان على بناء مستقبل جديد
على أنقاض انهيارات عظيمة ومريعة( حصيلة الحرب العالمية الثانية، هيروشيما ناكازاكي....)
زمن الحرب اذن يضاهي زمن العيد في القدسية زمن حلول المقدس ظهور و انبعاث
الهي كأننا في زمان الولادات زمان البدايات.
برجوعنا الى مقدمة المقال فان ما يقع في منطقتنا من حروب ومآسي ستؤدي
لا محالة الى ولادة عالم جديد، فكما الحروب العالمية الأولى و الثانية، وكما الحرب
الباردة ولدت عالما جديدا، كذلك حروب اليوم ستؤدي لا محالة لولادة عالم جديد، وتصريحات
بعض المسؤولين الأمريكيين يعبر عن ذلك من خلال قولهم أن دولا في المنطقة ستختفي نهائيا.
أليس ذلك معبر عن نهاية عالم وولادة آخر.
انها الحرب : عيد حضارتنا بعد أن لم يعد للعيد نكهة ولا دور في عالمنا
اليوم.
مراجع
Mercia
Eliade , le Mythe de l’Eternel retour, Gallimard, 1939
CAILLOIS
Roger, Le Mythe et l’Homme, Gallimard, Paris,Juin 1937
L’homme et le
sacré, Gallimard,3e Ed-1963.