اختلالات النظام التعليمي في البلدان العربية وعرقلة التنمية البشرية : علي القاسمي
خاص
تجذَّر مفهوم التنمية البشرية في التقارير السنوية التي
يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منذ سنة 1990. وفي المنطقة العربية، تعزز
ذلك المفهوم بتقارير
التنمية الإنسانية العربية. وينبني المفهوم على فكرة أن
الإنسان هو ثروة البلد الحقيقية. وتنمية البلاد أساسها تنمية الإنسان معرفياً
وصحياً، فالإنسان غاية التنمية ووسيلتها. وتضطلع الدولة، من خلال ترسيخ
الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان، بتزويد المواطن بالأدوات المناسبة والفرص
المواتية ليختار نوع الحياة التي تليق بالكرامة الإنسانية. ويتطلَّب تحقيق التنمية
البشرية إيجاد مجتمع المعرفة القادر على تلقي المعلومات واستيعابها وتمثلها
وتبادلها والإبداع فيها بسهولة ويسر، وهذا لا يتأتى إلا باستخدام اللغة الوطنية
المشتركة.
وفي كل سنة يُذيَّل التقرير الأممي بسلَّم التنمية الذي
يصنف معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بحيث تحتل أفضل الدول تنميةً المرتبة رقم 1 وأدناها
تنمية المرتبة رقم 180، وذلك باعتماد ثلاثة معايير أساسية هي:
1)
التعليم : ويُقاس بنسبة المتعلِّمين والمتمدرسين في
البلاد،
2)
الصحة: وتُقاس بمعدل العمر المتوقع لدى الولادة،
3)
الدخل : ومدى كفايته ليعيش المواطن بصورة لائقة.
وقد كُلِّفتُ بمراجعة الترجمة العربية لعددٍ من هذه
التقارير التي تُكتَب بالإنجليزية وتترجم إلى اللغات الأممية الرسمية الخمس الأخرى
ومنها العربية، فلفتَ اننباهي أن معظم الدول العربية تحتل المرتبة ما بعد المائة،
وتصنَّف ضمن الدول ذات التنمية المتدنية ( أي المتخلِّفة) في حين أن دولاً أخرى
كانت أقل تنمية من الدول العربية أواسط القرن الماضي، حققت تقدماً باهراً، مثل فنلندا
( التي كانت أفقر دولة في أوربا)، وكوريا (التي كانت أفقر دولة في آسيا)،
وماليزيا، والبرازيل، والصين، وتركيا، وإيران وغيرها.
وبعد دراسة مقارنة، أيقنتُ أن الخلل يكمن في النظام
التعليمي عندنا، وأن جميع الدول المتخلّفة تشترك بأمور تعرقل التنمية، وهذه الدول كما
يحدّدها التقرير هي جميع الدول الأفريقية، ومعظم الدول العربية، والهند وباكستان
وبنغلاديش والفلبين. وتشترك هذه الدول في ما يأتي:
أولا، عدم عدالة النظام التعليمي وانعدام تساوي الفرص
التعليمية، ما يؤدي إلى تفاوت كبير في الفرص التشغيلية. فالنظام التعليمي في الدول
المتخلفة طبقيٌّ فيه ثلاثة أنواع من المدارس:
1)
مدارس أجنبية تُدرّس منهجاً أجنبياً بلغة أجنبية، بأجور
باهظة، وهي لأبناء السلطة والأغنياء، ومنها يتخرج قادة المستقبل بهوية وطنية غير
مكتملة.
2)
مدارس خصوصية تدرّس منهجاً وطنياً مع عناية بتدريس اللغة
الأجنبية والمعلوميات، ولا توجد إلا بالمدن الكبيرة، وترهق الطبقة المتوسطة
بأجورها المدرسية الباهظة.
3)
مدارس حكومية أو لامدارس لأبناء الفقراء، وهي تدرّس
منهجاً وطنياً، ولكنها ذات جودة متدنية بسبب ضعف تجهيزاتها، واكتظاظ صفوفها، وكثرة
غياب معلميها وقلة تدريبهم.
وإذا أضفنا مدارس التعليم الإسلامي التقليدي، تأكد لنا
أن هذه الأنواع المدرسية المتعددة تخرّج مجموعات مختلفة من المواطنين، ذات عقليات
متباينة ومنطلقات فكرية متباعدة، ما يخشى معه حدوث انقسام مجتمعي له مخاطره على السلم
الاجتماعي.
ثانياً، التعليم باللغة الأجنبية: تشترك جميع
الدول المتخلفة في آسيا وإفريقيا في اعتمادها لغة المستعمِر القديم ( الإنجليزية
أو الفرنسية) في التعليم، خاصة تعليم العلوم والتقنيات، وفي المؤسسات الاقتصادية
والمالية كالشركات والبنوك، وفي الحياة العامة. والتعليم باللغات الأجنبية غير
تعليم اللغات الأجنبية المحبَّذ.
وتؤكد تقارير التنمية الإنسانية العربية أن
طلابنا الذين يدرسون العلوم باللغة الأجنبية لا يستوعبون ما يدرسون لأسباب عديدة
منها أن الطالب يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: صعوبة فهم اللغة الأجنبية، وصعوبة
المادة العلمية، وصعوبة ترجمة ذهنية لما يدرس إلى اللغة العربية، لإضافته إلى
منظومته المفهومية المعرفية التي هي أساساً بلغته الوطنية. وأن تدريس العلوم بلغة
أجنبية لا يساعد على توطين المعرفة العلمية، ويبقيها أجنبية، ويحول دون استيعابها
وتمثلها والإبداع فيها، ويعرقل تنمية اللغة الوطنية، ويضعف حركة الترجمة، ويحصر
المعرفة في نسبة ضئيلة من السكان. ويؤكد الخبراء أن العربية تمتلك اليوم من
المصطلحات العلمية والمعاجم المتخصصة ما يكفي لدراسة جميع العلوم والتقنيات بالعربية
حتى ما بعد مرحلة الدكتوراه. وفي وسع القارئ الكريم الاطلاع على الآلاف من
المصطلحات في بنك المصطلحات الموحدة بمكتب تنسيق التعريب بالرباط ( http://www.arabization.org.ma ) أو
على شبكة العلوم الصحية ومعجمها الطبي الموحد الذي يضم 150 ألف مصطلح طبي عربي
( http://www.emro.who.int/ar/Unified-Medical-Dictionary.html ) ، أو على مجلة العلوم العربية الكويتية وهي ترجمة شهرية
لمجلة العلوم الأمريكية ( http://www.kfas.org/ar/oloom-magazine.html ) .
ثالثا) انفصامٌ في النظام
التربوي: المفروض أن يشكِّل النظام التعليمي جزءا من المنظومة التربوية في
البلاد، ولكن النظام التعليمي في البلدان المتخلفة جزيرةٌ معزولة عن بقية مكونات
المنظومة التربوية. فالإعلانات والإشهارات والإعلام، عندنا مثلا، لا تعزز ما
يتعلمه التلاميذ باللغة العربية الفصيحة، لأنها تغلب عليها اللهجات أو اللغة
الأجنبية أو خليط منهما. والدارجة هي مستوى مبسط من اللغة لغرض الاستعمال اليومي
العابر، فهي مختزلة في قواعدها، مبسّطة في تراكيبها، محدودة في مفرداتها، ولا تصلح
للتفكير والتحليل العلمي المنطقي. إضافة إلى أن إعلامنا يحصر وظيفته في الأخبار
والتسلية بكرة القدم والغناء والرقص، ويستبعد البرامج الثقافية أو المعرفية الجادة.
وخلاصة القول إن النظام التعليمي والسياسة
اللغوية المتبعة ييسران لخريجي المدارس الأجنبية تبوء المناصب الحكومية ووظائف
المؤسسات الاقتصادية والمالية كالشركات والبنوك، بفضل إجادتهم اللغة الأجنبية المعتمدة،
في حين تعاني الأغلبية الساحقة من المواطنين البطالة والتهميش والإحباط، بحيث يضطر
كثير من شبابها إلى ركوب قوارب الموت بحثاً عن إنسانيتهم أو الانخراط في حركات
متطرفة مشبوهة. وهذا كله سيؤدي إلى اضطرابات وهزات اجتماعية تهدد الأمن القومي.
ــــــــــــ
+ الدكتور علي
القاسمي أديب وباحث مجمعي عراقي مقيم بالمغرب.