محمد الشركي :مقاطع الدّفتر الليلي
قُبيل مرضه الأخير الذي عجّل بوفاته، زار المفكر
والمبدع المغربي العميق عبد الكبير الخطيبي وزارة الثقافة بشأن مشروع ثقافي كان يبلوره،
ولم يفته، بنبله الكبير، أن
يعرّج عليّ بمكتبي بمديرية الكتاب ليسأل عنّي. تجاذبنا
حديثاً شفّافاً ومتواطئاً حولالكتابة ورهاناتها الجسيمة في مجتمعات -كمجتمعنا – اختطفتْها، لحسابها الخاصّ، أنساق ذهنية وسياسية فُصامية وانتهازية، تتبادل المنافع والمصالح مع عولمة متوحشة. وقادنا الحديث، حتما، إلى الترجمة وما بمستطاعها أن تنجزه من جهة سعيها –في مواجهة غير متكافئة- إلى الردّ على عولمة الاستهلاك وأسواقه بعولمة الفكر والإبداع وأقاليمهما المكابرة. أذكر تأكيد الخطيبي على أن مهمة المترجم لا تقل خطورة عن مهمة الكاتب والشاعر والمفكر من جهة مسؤوليته المزدوجة أمام قوانين الضيافة الخاصّة بكلّ من اللغة الأصلية للنص واللغة الأخرى المراد ترحيله إليها... وهي مسؤولية تظل محدودة الضمانات الترجمية ما لم تكن مُضاعفةً بالشغف، أي ب "عشق اللسانين" (وهذا تحديداً عنوان أحد الأعمال الإبداعية الفخمة للخطيبي) في حركة ذهاب وإياب مغرمة بقدر ما هي صارمة من لغة إلى أخرى، احتراماً للموتى حرّاس كلتا اللغتين، ونهوضا بالتبعات الرمزية لقانون علّمنا عبد الكبير الخطيبي، طيلة حياته الفكرية والإبداعية –المتجددة حتى في رحيله – أن نلتزم به، وهو أن عودة الموت تنير دائماً وجه الفكر.
2-سركون بولص المطلُّ علينا من فوق أسوار مدينة "أين"
في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، زار المغرب
الشاعر العراقي الراحل سركون بولص، وأتيح لنا، بتدبير فاره من قوّة سومرية عطوفة، أن
نلتقي ببيت الشاعر محمد بنيس بالمحمدية. يحضرني، كما لو كان أمس فحسب، ابتهاج سركون
وهو يعانقني ويخبرني، فوراً، بعفويته الفيّاضة، بإعجابه برواية "العشاء السفلي"
التي قرأها بلندن في منتصف سفرٍِ كان قد قام به، قبل لقائنا بحوالي شهرين، من مهجره
الأمريكي بسان فرانسيسكو لزيارة ما تبقى من أهله في عراقٍ كان قد فَقَدَ بوصلته في
رمال الشرق الأوسط المتحركة، وذلك بعد زهاء عشرين عاما من الغياب. ويحضرني أيضا لمعان وجهه الآشوري – الذي خبر وعثاء الصَّحارى وأوجاع
المرافئ ودهشة المجهول – وهو يهديني ديوانه الباذخ "الوصول إلى مدينة أين"، بعدما كتب في صفحته الداخلية الأولى:" الوصول
إلى أخي في الروح محمد الشركي، على شرف المغائر وطوطم المغامرة". بعد ثلاثة أيام
قضيناها برفقة الشاعر بنيس، رافقني سركون إلى فاس حيث كان ينتظره مقياس آخر من الافتتان.
وقف مشدوها أمام الأسوار وهدير أزمنتها، وسحرته روائح البهارات والطيوب المنبعثة من
حوانيت العطّارين في المدينة القديمة. وفي طريقنا إلى مقهى الناعورة بجنان السبيل لشرب
شاي منعنع، أوقفتُه تحت تينة معمّرة ضاربة بجذورها في سُرّة جِدَارٍ تاريخي. رفع بصره
إليها يتأمّل أعجوبتها ثم خرج يعاين موضعها الملغز وسط السُّور، والتفت إليَّ مفتونا
بالشجرة المثمرة الوارفة المنفلتة من صَدْعٍ غامضٍ في حجارة الجدار، ثم قال لي:
"كيف يغيب مثل هذا السّحر عن كثير من الكتاب والشعراء المغاربة؟ كيف لا يجرؤون
على تدمير البداهة كما تجرَّأت هذه التِّينة
على تدمير بداهة الصَّخْر؟" سؤالان لا
يزال صداهما عالقاً هناك، بين صدوع أسوار فاس، التي كتب قصيدتها بعد عودته إلى مهجره
الأمريكي، وخرائط مدينة "أَيْن" التي يسهر فيها حالياً كما يشتهي مَوْتُه
الزاخر بالحياة كمدائن آشور.
3 – فيروز : رأفة الأرض ولوعتها
لم تبلغ فيروز ثمانين عاماً. فيروز، كفيزياء الصّوت
النبوئيّ، لا عمر لها. مثله اخترقت جدار الزمن وظلّت سطوتُها منفلتة من إسار خطوط الطول.
هي لبنان العمق، لبنان جبران خليل جبران الذي صرخ من مُقامه الأمريكي في اللبنانيين
– وكأنه كان يرى ببصيرته شتاتهم الطائفي الرّاهن وتفرُّقَ دمهم السّياسي بين قبائل
الداخل والخارج القريب والبعيد -: "لكم لبنانُكم ولي لبناني.."، وهو لبنان
الذي ارتقى سلالم صوت فيروز وانتشر في جهات الأرض. خلال سنوات الحرب الأهلية الخمس
عشرة، كان وكلاء الموت بمختلف المليشيات يقنصون بعضهم البعض في نهارات بيروت المسربلة
بالدخان، وفي الليالي يتحررون من أحقادهم وحساباتهم ويفيئون إلى صوت فيروز الرئيف الذي
التفّ حوله إجماعٌ يفتقده السّاسة والحكّام بمرارة. وقبل بضعة أعوام، أخبرتني صديقة
لبنانية على صلة بها أنّ الفنانة الجوهرية تشترط، منذ عقود، على من يزورونها في بيتها
عدم التقاط صورٍ لها، فقلت لها: معها حق. فيروز ليست صورة. فحتّى في وقفتها المهيبة
على المسارح، وفي سموق نظرتها المنشدّة إلى البعيد –نَفْس البعيد الجبراني – تحسّ بها
منخطفةً وغائبةً تماماً في صوتها الذي هو رأفة الأرض ولوعتها.
4 – "بروفايل" أوّليّ لابنة العيد
يداها خضراوان
وحروفها كالبحر القديم
مرجانيةُ الحُيُودْ
عيناها رأفةٌ تاريخيّة
تحوّل الخطاطيف
الهاجعة بين الأبراج
إلى رؤى لا تنام
مثلما تُحوّل روحُها التكوينيةُ
كلمات النهار
إلى طيور ليليةٍ
عابرةٍ للحدودْ
كلَّما آوت إلى فراش سرِّها
تُسلِمُ جَسَدَها الزّمنيَّ
إلى عطف بداياته
وتُدَلّي جُرْحَها على حافة الغناء
فيتسلّقُ اللبلابُ المقدَّس
تجاويف حلمها
وتستيقظ الطفلة الألوفية فيها
مبهورةً بتاريخ العيد
الصاعد إليها
من مَهْوى العُهودْ
5 – جياكوميتي : دفْنُ تمثالٍ لاقتراحه على شعب الموتى
تنبعثُ من تماثيل جياكوميتي النحيفة جدّاً قوّة
جبّارة. رغم نحافتها المتناهية – حدَّ أنك تخشى أن تنقصف سيقانها وأذرعها الرفيعة
– تحسّ بالمكان حولها مكتظّاً بها. معها –
كما مع الورود الهشّة والوجوه ذات الجمال الجوّاني –يتحقق مفهوم انتشار الرّوح. ذات
مساء زار القدّيس المتمرّد جان جينيه مشغل جياكوميتي (حيث كان صديقا للفنان العميق)،
وفيما هو يحادثه وقعت سيجارته على الأرض، ولما انحنى ليلتقطها فوجئ بتمثال نحيف صغير
مختبئا تحت الطاولة، فسأل جياكومتي إن كان لا يخشى ضياع التمثال الشارد، فأجابه بأنه
يثق في القوّة المغنطيسية للتمثال التي ترشده إليه حيثما كان متواريا. وقال له إنه
يفكّر في دفْنِ أحد تماثيله في الحديقة الخارجية للمشْغَل، فسأله جينيه إن كان دَفْنُ
التمثال يعني اقتراحه على شعب الموتى؟ فردَّ عليه جياكوميتي بأن ذلك وارد في تفكيره.
6- وَقْدَةٌ من ابتهالات عنايت خان
" حيثما نظرتُ، تُطالٍعُني رؤياكَ المجيدة،
مهما كان ما ألمسه، ألمس يدَكَ الحبيبة،
أَيّاً كان مَنْ أُبصره، أراك في روحه،
أيّاً كان مصدرُ الهٍبات التي أتلقّاها، فمنكَ أنت
أَتسلَّمها،
أيّاً كان القادمُ نحوي، أنتَ من أراك آتياً،
أيّاً كان من أًناديه، فإنّك أنتَ من أنادي
أَلَمْ أُغادر العالم المحجوب للّحاق بك؟
أَلَمْ آتِ إلى هذا العالم المحدود بحثاً عنك؟
ألم أقتفِ آثار خطاك على الأرض؟
أَلم ألتمس نورك في السماوات؟
فأين عثرتُ عليكِ أخيراَ يا حبيبي؟ بين شغاف قلبي".
7 -برقية من رينيه شار
"في ظلماتنا، ليس ثمّة مكان للجمال، لأنَّ المكان بأكمله للجمال".