حاملا ذلك "الكنبري"الأشبه بسلحفاة استطال عنقها وخرجت منه أنوف دقيقة كان يأتي. عادة ما كان يحدث ذلك في المساءات المشمسة. كان مجيئه يجعلنا نقطع مبارياتنا الحامية الوطيس في كرة القدم. نصبح كقطط أليفة تبحث عن دفء إضافي.كان يأتي إذن مرتديا ملابس قديمة تفوح منها رائحة مميزة لا يمكن لأنفك تفويتها. تستطيل أظافره بشكل ملفت، وقد تخللتها طبقة سميكة سوداء؛ أما شعره فيبدو وكأنه قد دهنه بزيت معتق.
كان يأتي كل سنة تقريبا؛ يأتي حينما تتوقف الأمطار وتتخلى الوديان عن غرور الشتاء. فلا يبقى لها سوى الخرير اللذيذ الأقرب إلى شخير القطط، وتصبح أشجار الأوكاليبتوس مزارا حقيقيا لنحل يبحث عن رحيق سائب يطفيء شعلة جشعه، ولا يبقى أيضا للضفادع إلا أن تنق في الليل البهيم في عزف جماعي لا علاقة له بالإطراب ،وذلك لإيقاظ متبلدي الشهوة منها.
كان يأتي في الصباحات، وهي عادة لم يحد عنها أبدا . يأتي رخوا كالتفاصيل ،مستترا كأشجار نحيلة في غابة شاسعة ،ثم يتحول إلى رجل غريب حينما يبدأ حديثه .
يتحدث عن قريته المندسة في ثنايا جبال بعيد ة؛ وعن الوادي الصغير الذي يشطر القرية إلى نصفين شبيهين بدفتي كتاب؛ عن زوجته التي تفترش اللحاف الوحيد في الغرفة"التحتانية"؛ عن ابنته التي لم تلج المدرسة أبدا؛ عن نظره الشحيح كأمطار السنوات العجاف؛عن أشجار اللوز التي تحيط بمنزله كشريط تلفيف تهرأ من فرط الاستعمال.
كان الرجل يستغرق في الحكي ويستمر فيه إلى وقت متأخر من المساء.
يحكي ويحكي..يوقظ أسراب الأحزان في أفئدتنا الصغيرة كحبات بلوط أسقطتها رياح سادية. تصبح وجوهنا كمقعرات هوائية متينة بحوامل حديدية، لا ترمش لنا أجفان، وفي دواخلنا تتأجج نيران ملتهبة، وتنفتح نوافذ بشبابيك صدئة تطل على منحدرات صخرية. كان حكيه كأقراص تنويم تقذف بنا إلى أعماق كهوف بدون مستقر، تقود إلى سراديب مظلمة ،كانت تتحول إلى كوابيس مخيفة. معاؤنا (صراخنا الذى كان أقرب إلى المعاء)الليلي يعلو، ويعلو فيوقظ الجدات من نومهن هلعات منفوشات الشعر تلعن الرجل وحكاياته،حينما تعلمن السبب." إنها حكايات البوهالي" كنا نقول ؛فتقول الجدات"الله يلعن الشيطان" ، ولا نعرف أي شيطان؟ هل هو الشيطان التقليدي؟ أم أنهن كن ينعتن "البوهالي" بالشيطان . وهو ما لا يمكن أن نغفره نحن أو نتغاضى عنه. تصبح شتيمة"الله يلعن الشيطان" بمثابة شتيمة موجهة إلينا. فلم نكن لنقبل بأن يقوم شخص ما بإهانة صديقنا المسكين، حتى وإن كان الأمر يتعلق بالجدات الحنونات والمسالمات، والجالسات في غرفهن بانتظار الموت، مثلما ينتظر مسافرون ضجرون قطرهم المسائية المتأخرة. لكن جداتنا لا يردن بتاتا أن يأتي قطار الموت، على خلاف المسافرين التقليديين. لقد كن متلكآت بخصوص وص هدا السفر الوجودي، ناظرات إليه كمنغص يومي لا يمكن الفكاك منه. وهو المنغص الذي كان يظل مخيما على أحداثيهن طيلة النهار، ولا تنجين منه إلا حينما يدخلن في غفوة نهارية، أو حينما يدلفن إلى مفازات النوم خلال الليل.
ما اسمك يا عم؟
كنا نسأله بفم واحد حينما تكررت زياراته. كنا تلعثم أمام هيئته المهيبة بملابسه الغريبة وسحنته المتعبة.
"ما اسمك يا عم؟" كنا نكرر حينما لا يجيب.
يظل السؤال معلقا كأحلام المراهقة ،متمنعا كأشجار باسقة لا نستطيع تسلقها ،واسعا كصحاري تؤجج قسوة الجنوب.
احك يا عم! احك! لا تترك خبيئة في سريرتك !لا تتستر على شيء!اجعلنا نتجول في سفوح قلبك المائلة كسقوف من القرميد! لا أصدقاء لك سوانا! دمر أوتار ذلك "الكنبري"المضحك كأنك تريد أن تقطع أوصاله! إهو عليها بكامل قوتك حتى تعصر لنا ألحانا أكثر حزنا وإيلاما! أكثر من عزفك الموجع، وأعرض عن الكلمات أيها الرجل الغريب!
لم نعرف له اسما .حرنا نحن الأطفال كيف سنناديه .أسبغنا عليه ألقابا كثيرة :سميناه "مول الشكارة الكحلا"،"مول الكنبري"،"البوهالي"،ولكنه بقي غامضا بالنسبة إلينا. كان غموضه يزيد من فضولنا، وحكيه يجعلنا نتحول إلى تماثيل بأفواه مشرعة على المجهول. لا نقوى على الحراك أمامه. أما الذين كانوا أقل حظا منا؛ فكانوا يشتموننا إن لم نخبرهم بوصوله. كانت تستولي علينا أنانية الطفولة؛ فنتقاعس عن إفشاء السر. كنا نريد الاستفراد بحكيه قبل أن تتسع دائرة الاطفال المتحلقين حوله. نفضل سماع الشتائم الصغيرة على أن يكدر متعتنا شغب أطفال جسورين.
كان الرجل يشكل متعتنا الوحيدة. لكنه لم يعد يأتي.
حينما أصبح عدد جداتنا يتناقص سنة بعد سنة؛ اختفى الرجل؛ اختفى كأنه لم يكن أبدا معنا؛ اختفى وسط الغابات البعيدة متحولا إلى شجرة هرمة؛ أو إلى علامة من علامات التشوير الكثيرة المنتشرة في كل الطرقات؛ أو ربما جرفته سيول الأمطار التي كانت تسقط مدرارا دون توقف لأيام طويلة.
اختفى "البوهالي" وجاءت التلفزة.
جاءت التلفزة واختفى "بورحال"!
جاءت التلفزة، فانقرضت طفولتنا.
ألا يحق لنا مدح مفاتن الحداثة؟!
قاص-المغرب