لم تكن عناوين أعماله بمعزل عن شخصيته وآرائه، إذ
عُرف محباً لوطنه، كما كان رفيقاً لعميد الرواية العربية الأديب الراحل نجيب محفوظ.
ماذا يعني لك الفوز بجائزة العويس الثقافية في دولة
الإمارات؟
جائزة الشاعر سلطان العويس تتميز عن غيرها من الجوائز
العربية بأنها ليست جائزة حكومية تمنحها دولة ما، إنما تمتاز بمجموعة من المعايير تحكم
عملها وتُكسبها قدراً كبيراً من النزاهة، وبالنسبة إليّ جاءت الجائزة متأخرة، وكان
قد رشحني لها الأديب الراحل نجيب محفوظ بعد حصوله على نوبل، وظل الترشيح طوال هذه السنوات
إلى أن أُعلن فوزي أخيراً، وأن تصل الجائزة متأخرة ربما أفضل من ألا تصل أبداً.
أمة لا تقرأ!
هل تقلقك الاتهامات التي يروجها البعض حول الجوائز
الأدبية، ومنها تحويل الإبداع إلى سلعة؟
من يقولون عن الجوائز إنها «تسليع» للأدب ربما لم
يقفوا على هذه الجائزة أو تلك، لأن الجوائز مهمة للمبدع، إذ توصل له رسالة شكر في لحظة
معينة على ما قدمه، أيضاً لنعترف بأن قيمتها المالية ربما حلّت العديد من مشكلات المبدع
الحياتية..
فنحن موجودون ضمن أمة لا تقرأ ولا يستطيع الكاتب
أن يستمر ويعيش بالاعتماد على عائد كتاباته ونشرها، لسنا مثل الغرب، ربما تجدين كاتباً
نشر أكثر من عشرة أعمال ولا يوجد عائد لكتبه يمكنه أن يعيش به في المستوى العادي بالحياة،
وهذا ما يكسب الجوائز أهمية ما، ذلك شرط أن تكون نزيهة ولها معايير.
وفي الوطن العربي حالياً، هناك جوائز يقررها مثقفون،
بعيداً عن الدول، مثل: جائزة الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح، وجائزة الشاعر عبدالعزيز
سعود البابطين، وجائزة ساويرس في مصر.
كيف تقيم وتصف سمات الرواية المصرية في العقود الأخيرة؟
يوجد ازدهار روائي في الكتابة وفي النشر ربما لم
يحدث من قبل، وهذا لا يتوقف عند حدود الرواية المصرية، بل يمتد إلى الرواية العربية..
إلا أن هذا الازدهار يعاني من مشكلتين: الأولى عدم
وجود مجتمع يتابع ويحتضن مبدعيه ويقرأ نتاجاتهم، والثانية غياب الحركة النقدية التي
تمثل البُعد التالي للكتابة مباشرة، إذ ليس لدينا نُقاد للرواية، وإن وُجد ناقد هنا
أو هناك فإن الصحافة العربية لا تهتم بنشر مقالات نقدية بشكل دوري، وإن نشرت فإنها
تُهمِّش المقالات وتعتبرها أموراً زائدة عن الحاجة.
تجسد كتابتك واقع مجتمعك.. فكيف ترى مصر حالياً؟
وماذا تمثل في أعمالك؟
مصر، حالياً، تتعافى من عُقد وجدب السنوات السابقة
على ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتحاول العثور على أول الطريق لكي تخرج من نفق
الأزمات الكثيرة التي تعاني منها، لكن الإيجابية الوحيدة في الراهن المصري الآن، أن
الـ25 من يناير، مرحلة شكَّلت حاجزاً تاريخياً بين ما كان قبلها وما جاء بعدها..
أصبحت هناك جرأة وأزيل حاجز الخوف من الدولة والحكومة،
ولا يقلل من هذه الجرأة سوى انتشار الأمية بطريقة محزنة.. وأيضاً الاحتياج المادي.
وأود أن ألفت في هذا الصدد، إلى أنه لدي الكثير
لأقوله ولم أقله.. عن مراحل وفترات وأحداث وأشخاص عديدين. فأنا كنت شاهداً وجزءاً من
تقلبات وأزمات وانقلابات كبرى في المجتمع.
ماذا عن علاقتك بالنقاد والنقد وما طبيعة كواليس
الكتابة لديك؟
أشير بداية إلى أن علاقتي بالنقاد سيئة. وأنا في
طقوس إبداعي أكتب في الأوقات المبكرة صباحاً، قبل أن تتلوث النفس بما يجري حولنا. وما
أكتبه اليوم ربما أعيد كتابته في الغد، وربما أراجعه أكثر من مرة، لكن الكتابة هي المتعة
الوحيدة الموجودة في حياتي، كما إن القراءة تساوي الكتابة في متع الحياة، وأحياناً
تتفوق عليها.
ما الذي مثله في حياتك ومسيرتك، رفيقك، الأديب الكبير
الراحل جمال الغيطاني؟
ربما لا يصح أن يقول رجل عن رجل إنه نصفه الآخر،
جمال كان أكثر من صديق العمر، وحتى الوقت الحالي لا أصدق أنه رحل عن عالمنا ولم يعد
موجوداً، وكلما رنّ الهاتف أفتحه وأنا أتصور أنه سيتحدث معي مثلما كان يفعل طوال أكثر
من نصف قرن، عرفته في رحاب نجيب محفوظ في جلساته بمقهى «ريش» في ستينيات القرن الماضي..
وكنت أنا وهو من أفقر الشباب الذين يحيطون بنجيب
محفوظ، ربما جمع الفقر بيننا لكن رحلة الكتابة والنشر والقراءة جمعت بيننا، كنت مُجنّداً
في الجيش ولم تكن عندي مكتبة، لأنه لم يكن لي بيت، وأصبحت مكتبة جمال مكتبتي وبيته
بيتي. ونشرنا أعمالنا معاً عبر دور النشر نفسها، ذاك منذ الكتاب الأول وحتى الكتاب
الأخير.
حظيتَ بفرصة الاقتراب من الأديب الراحل نجيب محفوظ..
فكيف استفدت من ذلك أدبياً؟
استفدتُ من نجيب محفوظ قيمة العمل وإدراك أهمية
الوقت، فعندما كان يبدأ في كتابة رواية جديدة يقول لنا: عندي شغل، كان يصف الكتابة
بالشغل وكان مهتماً جداً بالقراءة.
ربما كان الوحيد من بين أبناء جيله، وأنا عرفتهم
جميعاً وتعاملت معهم واقتربت منهم ولي معهم حكايات كثيرة، الذي تعب وعرق وعمل وأفنى
عمره من أجل هدف وحيد: أن يكتب كتابة جميلة تبقى بعد أن يرحل عن عالمنا. وفعلاً، تحقق
له ما أراد.
كتبتُ يوم حصول نجيب محفوظ على نوبل مقالاً في مجلة
(الهلال) عنوانه «قيراط حظ أم فدان شطارة؟!»، وهو مثل شعبي كنت أستمع إليه في قريتي،
وقلت يومها إنها «الشطارة» التي جاءت بنوبل لنجيب محفوظ وليس الحظ أبداً، رغم أن نجيب
محفوظ قال لي يومها إنه محظوظ، بل ضحك ضحكته المجلجلة وهو يقول: من الآن يجب أن نسمي
نجيب محظوظ بدلاً من نجيب محفوظ.
هل هناك مشروع أدبي تعكف عليه حالياً؟ وما ملامحه؟
سألني الراحل محمد حسنين هيكل، في أحد لقاءاتي الأخيرة
معه، عما أكتب هذه الأيام. فقلت له إنني أراوح بين مشروعين لروايتين: الأول لما جرى
في بلادنا بعد الخامس والعشرين من يناير بكل ما جرّ علينا من أفراح وأحزان وأمجادٍ
ومآس، أيام المجد والأخطاء.
أو محاولة ثانية للكتابة عن السنة التي اغتصب فيها
الإخوان حكم مصر وما فعلوه بنا، خصوصاً أن كتب التاريخ لا تذكر الأحداث ذات الطابع
الإنساني، لكنها تكتفي بالعناوين البراقة، وتبقى الرواية فن التفاصيل الذي يحفظ ما
جرى للأجيال القادمة.
ترصد رواية «مجهول» للأديب يوسف القعيد، وجهاً من
واقع القرية المصرية، عن طريق شخصية «حسن أبوعلي» الذي يختفي في ظروف غامضة، بعد أن
أشاع أهل القرية أنه وجد كنزاً في داره القديمة.
وعلى الرغم من وجود راوٍ عليم في الرواية، إلا أن
السيناريوهات العديدة تتجلى مع القراءة، حيث تصعد تساؤلات حول مصير حسن أبوعلي، وتسير
الرواية مع كل سيناريو، حتى تنتهي إلى عدم صحته أو رجاحة سيناريو آخر.
وهي في وجه عام، تتسم، ورغم تمسكها بالواقع الريفي،
ببعد حداثي مستمد من مدرسة العبث مع الحفاظ على الموروثات المصرية، من خلال الثقافة
الريفية التي يوضحها القعيد في أدبه بصورة عامة وتحتل أغلب بيئات رواياته.
تضم الرواية ستة أبواب: كفر المرحوم، حقل المستخبي،
نصف بيت، كفر الغيب، الجبل والمعبد. وخلالها يقدم القعيد خلاصة رؤيته عن الغربة والاغتراب
داخل الوطن، كما يحكي عن الخرافة التي لا تزال تسيطر على الفكر المصري، لا سيما في
مناطق الصعيد والريف المصري. ويستمد القعيد من الريف الذي يعد موطنه ومنشأه، حكاية
«مجهول»، وليس المجهول هو البطل، ولكنه مصيره..
حيث تدور الرواية حول غياب بطل الرواية حسن أبوعلي،
بعد أن وجد كنزاً وهرب به، فلا أحد يعرف مصيره ومكان وجوده، فهل غرق في البحر أو تاه
في المقابر أو رحل للزواج من أجل الرزق بالأولاد؟! وجميع تلك التخمينات، هي من أفكار
أهل القرية التي يقطنها حسن أبوعلي الخفي.
وطوال أحداث الرواية يستعرض القعيد، أفكار أهل القرية
وسبلهم للتنقيب عن مصير أبوعلي المجهول، حيث يقع القارئ في بئر الحيرة بين الاحتمالات
التي يطرحها الروائي على لسان شخوص روايته، ويظل الشك سيد الموقف في القراءة، ويصبح
القارئ هو الحكم في ترجيح أي الاحتمالات أقرب إلى الصواب.
يستعرض خلال روايته ملكاته في السرد والحوار، مستخرجاً
عمق الموروث المصري في الريف، لتكون الرواية سبيلاً إلى التعرف إلى موروث الريف المصري
وسبل التعاطي معه، وهو ما تعكسه عناوين الفصول في الرواية. ومن أبرز تلك الأفكار المتعمقة
في الموروث الريفي:
الرزق بالأولاد، حيث إن حسن أبوعلي الشهير بـ«أبو
البنات» في قريته يطمح إلى أن يرزقه الله بمولود ذكر، ليكون إلى جواره، وهذا التفكير
لا يزال يحظى بحضور في عقلية المواطن الريفي.
ويستخدم القعيد سبيل المونتاج السردي في العمل،
فيقدم حوارات وأحداثاً متقطعة بعناية، تبرز أشبه بالحلقات السردية لتناسب صفة التعليق
على الحدث والتوقع. كما ينتقل من بين الشخوص، لتأتي الرواية بنهاية مفتوحة تعلق القارئ
معها.
يستشعر قارئ «مجهول» ليوسف القعيد، بعبق الحياة
الريفية وأهمية الأعمال الأدبية التي تقدر تلك الثقافة، حتى وإن اختلفت معها، حيث يتطرق
القعيد إلى أكثر من زاوية في رصده لها.
كما أن العمل يشفي شغف القارئ الراغب في التعرف
إلى الواقع المصري الحقيقي والتفكير الشعبي، إلى جانب إضافة بعد تأملي وفلسفي حول ماهية
وجود الإنسان وسط أفكار الريف. كما ينعكس البعد الريفي على أسماء شخوص الرواية، حيث
نجد: حسن أبو علي، الديب (وهو الشخصية الأكثر شراً في الرواية)، «أحمده» ابنة حسن أبوعلي
(ويأتي اسمها من رغبته في أن يرزقه الله صبياً).