أفضل من ترجم شكسبير إلى العربية يكرهُ الترجمة جبرا في حوار «الدوحة» قبل 31 عاماً...
من بين الأعمال التي تولَّى الروائي والشاعر والناقد
والرسَّام الفلسطيني المولد، العراقي الجنسية الراحل جبرا إبراهيم جبرا، ترجمتها، الآثار
التي باتت خالدة في الأدب الإنساني لشاعر الإنجليزية الأول،
وليام شكسبير، وتُعدُّ من أدق وأفضل الترجمات العربية من بينها: «هاملت»، «ماكبث»،
«الملك لير»، «عطيل»، ومسرحية العاصفة»، «السونيتات لشكسبير»، وغيرها
من الترجمات المُلفتة والرصينة، لكتَّاب آخرين، من بينها ترجمته رواية «الصخب والعنف» للكاتب الأميركي وليام فوكنر
(25 سبتمبر/ أيلول 1897 - 6 يوليو/ تموز 1962)، التي منحته جائزة نوبل للآداب
في العام
1949إلا أنه في حوار أجراه أحمد عنتر مصطفي
قبل أكثر من 30 عاماً، وتحديداً في أبريل/ نيسان 1985، في مجلة «الدوحة» القطرية،
قال: «قد تُدهش عندما أقول أنا في الواقع لا أحب الترجمة. لا أعشقها كطريقة
للتعبير عن نفسي». كان ذلك ردَّاً على سؤال المُحاور الذي جاء في الصيغة الآتية: أسهمت إسهاماً مميَّزاً في
الترجمة ما
بين أعمال إبداعية لشكسبير وغيره، وأعمال نقدية
وتنظيرية. من أي الزوايا نتطرَّق إلى تجربتك في الترجمة؟
الحوار تناول موضوعات متنوعة، تراوحت بين الشعر
والنقد، وتجربة الرواية (له رواية مشتركة مع الروائي السوري الراحل عبدالرحمن
منيف «عالم بلا خرائط»)، لكن موضوع الترجمة تناول أفكاراً ورؤى، بشواهد واستحضار
نماذج، ربما لم يُدْلِ بها جبرا في لقاءات سابقة عبر المنصات الإعلامية المتوافرة
وقتها، إلا لُماماً وفي بعض محاضراته التي يُدعى إليها في أقطار عربية، ومن بينها ما أتذكَّره ندوته في إمارة
الشارقة، على هامش فوزه بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في تسعينات القرن الماضي.
الترجمة... فهْم الإنجاز
لم يعشق جبرا الترجمة ليس باعتبارها لا تعبِّر عن
نفسه فقط؛ إذ لذلك تفصيل يتضح من القيمة التي ينظر إليها من وراء الترجمة
كفعل إبداعي «أنا لم أطمح إلى هذا الدور لأني طمحت أن أكون كاتباً مبدعاً». ويتحقق جزء من التعبير عن نفسه بقدرته
على
التماهي مع العمل الأصلي، وقدرته على أن يكون حاضراً
في العمل نفسه، بالدلالات التي تحملها لغته الأم.
والترجمة لم تكن يوماً بالنسبة إلى جبرا نقلاً ونسخاً
عن لسان آخر، الألسنة في تعدُّدها خليط من تراجع ومبادرات... قلب
الحكمة، والتعبير عن الانحطاط، وبما يؤكده عبر نتاجات لا روح فيها. تظل الترجمة إمساكاً بالروح في قدرتها على مشاركة
العالم
وبشر العالم في الطريقة التي تجعلهم جديرين بسبر
أغواره، وتأسيس طرق تفكير وحياة تعمل على تراكم الأروع في المنجز البشري.
ضرورة الترجمة - كما يراها جبرا - سببها أنها «تيسِّر
لنا فهم إنجازات الآخرين، وبذلك نستطيع الإفادة من تجربتهم أولاً، ونضع تجربتنا نحن
إزاء تجربتهم ثانياً».
وبوعيه العميق والمتجدِّد، كان يفطن إلى أن الترجمة
السيئة قد تأتي بالأفكار مشوَّهة «وبذلك قد نبني أفكاراً خاطئة نقلاً
عن خطأ المنقول».
وبحسب اللقاء المذكور، ترجم جبرا لكي يثبت أن الترجمة
على اتصال وقريبة من الإبداع، بقدرتها على خدمة الفكر، والأشكال الإبداعية التي تقدَّم
بها إلى القرَّاء. الذين قرءوا شكسبير بلغته الأم يدركون مدى صعوبتها
(كلاسيكيتها من جهة، والروح التي
تكتنفها بتوجهه إلى أزمنة لاحقة، صارت محط بحث ودراسة
وتأسيس لكثير من كليات الآداب في مختلف دول العالم)، وتصدِّي جبرا لترجمة
أهم أعماله، على رغم أن كثيرين سبقوه في هذا المشروع، جاء عن تأسيس أتاحته له الجامعات الكبرى في العالم التي
تعلَّم وعلَّم فيها، بحيث صارت الأعمال التي تصدَّى لترجمتها،
وبعض أعمال شكسبير من بينها، علامة فارقة بين عديد التجارب السابقة واللاحقة؛
بحسمه لمسألة الدور الذي تقوم به الترجمة بالقول: «كنت أحياناً أشعر أن الأعمال الإبداعية في اللغات الأخرى تتمتَّع
بشحنة
ما، يغفل الذين يترجمونها عن نقلها، اهتماماً بالفكر
فقط. يعطون العرض دون الجوهر.
وهذا ما دفعني إلى ترجمة شكسبير - على كثرة ما تُرجم
- لكي أنقل هذا الزخم الموجود في الأصل إلى لغة قادرة وبإحكام حيث لا
يقل العمل المترجم ولا يختلف عن الأصل إلا بقدر ما في اللغتين من خلاف في أسرار كل لغة».نسبة الحضور في الممارسة
هل يكون المُترجم حاضراً في العمل الذي يشتغل عليه.
حاضراً بمعنى التفكير باللغة التي ينتمي إليها؟ جمالياتها؟ حمولاتها؟
طرق تأديتها للمعاني؟ توليدها للمجازات؟
استحضار مؤدَّيات فيها لا تحتكم إلى الحرفي في بعض
الأحيان، بحيث تصير إلى المعنى الجامع، من دون القفز الفاحش على «نصِّيتها»؟
يتناول جبرا هذا الجانب الذي يبدو شائعاً لكن طرف
فهمه، والتعامل معه لحظة الاشتغال على ترجمة نص كثيراً ما يكون غائباً أو
مُغيَّباً، ويحدث ذلك عن وعي أو غير وعي. المسألة تتعلق هنا بتداخل المُترجم في النص.
نسبة الحضور في الممارسة - كمبدع -ضمن تجربة جبرا نفسه.
يؤكد جبرا في اللقاء أن حضوره كمبدع في الممارسة
رئيس ومحوري، ومن أهم العناصر المؤثرة في دقة العمل من جهة، وتميُّزه
من جهة أخرى. يسأل: لماذا؟ يجيب: لأني لا أُترجم كوظيفة. هو يترجم ما يحب. ولكي تكون أعمالاً مما يحب، لابد أن
تكون متناغمة
مع تفكيره وموقفه من الحياة. التفاعل مع المنقول،
والتداخل ضمن مواقفه الفكرية والإبداعية، ضمن محاولة لنقل ما أسماها
«الشحنة الأصلية»، بحيث يضع كثيراً من نفسه.
يتناول تجربته مع ترجمة «هاملت»، «الملك لير»، و
«عطيل»، والأولى تحديداً، فيرى أنها أخلص ما يمكن أن يصاغ باللغة العربية
«لشخصيات شكسبير وصوره الشعرية وأساليبه الكلامية التي احتوتها «هاملت». يُفصِّل في ذلك كثيراً بالقول: «أنا أستعمل
اللغة
العربية، وهي ملْكي وليست ملْكاً لشكسبير؛ لذا أنا
أنقله إلى لغتي».
بتلك الرؤية يشير جبرا إلى أنه إذا نقل شكسبير إلى
لغته (العربية) فهو بالضرورة ينقل فكرته (شكسبير) إلى أسلوب جبرا، وبذلك
هنالك «جعْلية»: جعل قسماً من شكسبير قائماً في جبرا.
ويورد في هذا الصدد قصة أن أحد الممثلين في مصر
«مثَّل هاملت، فدمج بين ترجمته وترجمة عبدالقادر القط، وربما خليل مطران،
وصنع منها نصاً مزيجاً. «قلت عندئذ إنه لم يُدرك - على حسن نيته - أن المُترجم يضع رؤيته في النص. وما كان على
الممثل إلا
أن يختار هاملت جبرا، أو هاملت القط... طبعاً لا
تجد في الغرب مثل هذا التخبُّط أو الاعتباط».
العرب محظوظون بنجيب محفوظ
تضمَّن الحوار - كما سبق ذكره - موضوعات ومحاورة
عديدة، من بينها سؤال وُجِّه إليه كناقد، له في الممارسة حضور واعتبار، من
بين الأسماء العربية المؤثرة والنشطة في هذا المجال، وإن انشغل في بعض ما قدَّم بالنقد الفني، ذلك المتعلق بحركة
التشكيل
العربية، وما يرتبط بها من أشكال وصِيَغ. ربما من
أكثر الأسئلة إحراجاً، وعادة ما تكون متكررة، تقديم مجموعة من الأسماء،
هي في الصف الأول على مستوى الرواية، المجال الذي خاض وأبدع فيه جبرا، وقدَّم من خلاله أعمالاً هي علامات في فضاء
الرواية
العربية عموماً. مُحرجة من موقعين: موقع الناقد،
وموقع الممارس للشكل الأدبي نفسه: الرواية. وهنا لابد من الإشارة إلى مسألة
غاية في الأهمية، وخصوصاً لأولئك الذين عرفوا جبرا عن قرب، والتقوا به - وكاتب هذه الاستعراض من بينهم - أن جبرا
بطبيعته
لم يسفِّه حتى التجارب التي كانت تتخبَّط في أدائها
وما تصدره. لديه كمٌّ من المحبة واللطف والمراعاة والتقدير بشكل يدعو إلى
الإعجاب. بعض رأى في هذا التوجُّه تخلِّياً عن دوره الحقيقي كناقد، في ظل
ما تعجُّ به الساحة الأدبية من غث وركيك وضامر. لكنه هكذا، ربما يتناول مثل هذه الظاهرة، لكنه لا يُسمِّي، ويفضِّل
في كثير
من الأحيان، تحييد أو تأجيل أدواته النقدية، مكتفياً
بالمرور العابر الذي لا تجريح أو أذى فيه.
سأله المُحاور عن: نجيب محفوظ، فتحي غانم، عبدالرحمن
منيف، والطيب صالح، ومن موقعه كناقد. أمام تلك الأسماء سيلجأ إلى الاغتراف
من تلك المحبة التي يملكها. التواضع أيضاً، والرأي الذي لا لبْس فيه أحياناً
أخرى. قال عن نجيب محفوظ: إن العرب محظوظون لأن لديهم كاتباً كبيراً كنجيب محفوظ «بهذه الغزارة، وهذا الخيال، وهذا
الداب
والإصرار».
وعن أعمال فتحي غانم، رأى أنها تقف مع أعمال نجيب
محفوظ «له موقفه الإنساني، وتجربته المقتدرة في العالم الروائي».
منيف لم يجد من ينشر لهأما صديقه، عبدالرحمن منيف
والذي اشترك معه في عمل روائي، هو من علامات الرواية العربية «عالم بلا خرائط»، فقال عنه في الحوار: «من النوع الذي يُحاسب
نفسه على ما
يكتب. كتب (الأشجار واغتيال مرزوق) كتفجُّر أول
هائل وعمره أربعون عاماً، وهي أول تجربة له في الكتابة. حين أراد نشرها لم
يجد ناشراً. بعد ذلك فرض نفسه على الناشرين». وعن الروائي السوداني الطيب
صالح، يروي جانباً من قصة كتابته لروايته الأشهر «موسم الهجرة إلى الشمال»، نقلاً عن مصدرها الأصلي وهو جون جيي
ديفيز؛ إذ
كان الأخير يحبسه في غرفة مطلة على النهر حتى يكتبها،
فيكتب مُكرهاً. كما قال عنه
إنه موهوب «ولكن (موسم الهجرة إلى الشمال) أعطته
الشهرة، ولكنها لم تتكرَّر»، ولم يتردَّد في وصفه بأنه «كسول إبداعاً، ومتساهل
في قيمته ككاتب».
وضمن محور الحركة الثقافية في المغرب العربي، تناول
الحوار أسماء في الرواية:
الطاهر وطار، والنقد: عبدالسلام المسدِّي، والشعر:
محمد بنِّيس، وتقييمه لأعمال تلك الأسماء. لم يتعامل مع الأسماء تلك كما
حدث مع الأولى في فضاء الرواية. ظل كلامه
عمومياً. فضَّل أن يتناول قضية أن الكتاب العربي
«مظلوم أو منبوذ»، إذا صدر في المغرب لا يصل إلى العراق، إلا بجهود فردية
ومصادفة. ولم يتردَّد في القول «ونحن لذلك لا نعرف هذه المحاولات كما تستحق أن تعرف وتُدرس».اكتفى من بعيد بالإشارة إلى أن هناك أسماء نقدية في المغرب العربي «متأثرة بالبنيوية والمذاهب الفرنسية المعاصرة. وهنا أسجِّل ملاحظة أنها ظهرت
كتنظير ولم
تترك أثراً على الإبداع»!، وبالنسبة إلى المترجمين
في المغرب العربي، أشار إلى أنه ليس بالضرورة أن لكل ما ترجموه عن رولان
بارت، أو غيره معنى عند كتَّابنا وشعرائنا، هم أحياناً يبالغون فيما ينقلون».لقاء جبرا في «الدوحة»، في التاريخ المشار إليه مهم إذا وضع في سياقه
الزمني، ومهم
ما قامت به المجلة بإصدارها «ظل الذاكرة... حوارات
ونصوص من أرشيف مجلة الدوحة»،
الذي ضم أهم النصوص واللقاءات والشهادات لأهم وأكبر
الأسماء العربية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي. جهد مهم يستحق
الثناء.
ضوء
ولد جبرا إبراهيم جبرا في بيت لحم في عهد الانتداب
البريطاني العام 1920، وتوفي العام 1994. مؤلف ورسام، وناقد تشكيلي،
فلسطيني من السريان الأرثوذكس الأصل. استقر في العراق بعد حرب العام 1948. أنتج نحو 70 من الروايات والكتب المُؤلفة والمُترجمة، وقد ترجم عمله إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة.
درس في القدس وانجلترا والولايات المتحدة الأميركية،
ثم تنقل للعمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنجليزي وهناك تعرَّف
عن قرب على النخبة المثقفة، وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية مثل
بدر شاكر السيَّاب وعبدالوهاب البيَّاتي.
يُعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجاً وتنوُّعاً؛
إذ عالج الرواية والشعر والنقد، وخاصة الترجمة كما خدم الأدب كإداري في مؤسسات النشر.
عُرف في بعض الأوساط الفلسطينية بكنية «أبي سدير» التي استغلها
في الكثير من مقالاته سواء بالإنجليزية أو بالعربية.
من أعماله في الرواية: «صراخ في ليل طويل»،
(1955)، «صيَّادون في شارع ضيق»، وصدرت بالإنجليزية (1960)، «السفينة»، (1970)، «البحث عن وليد مسعود»،
(1978)، «عالم بلا خرائط»، (1982)، بالاشتراك مع الروائي السوري
عبدالرحمن منيف، «الغرف الأخرى»،
(1986)، «يوميات سراب عفان»، «شارع الأميرات»، «عرق وبدايات من حرف الياء»، (مجموعة قصصية)، «البئر الأولى»، (سيرة ذاتية). وفي الشعر أصدر: «تموز في المدينة»
(1959)، «المدار المغلق»، «1964»، و «لوعة الشمس»، (1978).وليام شكسبير - جبرا إبراهيم جبرا