ليس سهلا على شخص انتزاع حجارة تأنيب الضمير، من رأسه، انها بمثابة ثقب في نافذة حياتنا.
ولن تختفي الا بحدوث معجزة ما او التصاقها بشريط من المحاولات للإصلاح.
كان آرنست همنغواي، يعاني الصراع لاقتلاع «آجي» - الممرضة التي تكبره بتسع سنوات- من رأسه. ولم ينته صداعه وقتها الا برصاصة تخرج نحوه. لم يحتمل دخوله في دوامة التعذيب الداخلي الذي اصابه بعد ان قتلها بدافع «الغيرة» ..
فلم تنج روحه ولم يخلص ضميره الا بتلك الرصاصة.
هذه هي الأخطاء معلقة في أرواحنا، وقد لا ترحل إلا عند موتنا، اي لا فرار من تكرار المصائب! ذلك إننا أحيانا نتوق لتلك الوغزة التي تؤلمنا، لعلها تفيقنا من غيبوبة كانت قد اكتسحتنا يوما.
كانت صديقتي تخبرني ان زميلها، الذي ينافسها في الصف، وينوح باكيا كلما لاقى درجة أعلى منه، سيترك مدرسته المتوسطة بغمضة عين،
ويبدأ مشواره الجديد مع إحدى الجماعات المسلحة. صديقهم الذي مزجه الصف السادس –ب- بزملاء من مختلف الأديان، لم يجد أمامه شيئا سوى الانسلاخ عن بيئته القديمة والتي بلا شك أصبحت قطعة
رديئة من الماضي «الاثيم» وأصبح غريبا عابرا، لا يراهم بغير النظرات الساخطة.
وعلى ما يبدو ان زاد الشطارة لا يأكل ولا يشرب مع محمد الذي أقحم حياته في موت دسم لا مفر منه
-كان يكرهني لمنافستي صار يكرهني لديانتي
ترميني بسمايل يبكي لشدة الضحك، ثم يعود بسمايل يعتصر وجهه لشدة البكاء
-لكنه وهبني ساندويتش يوما ما حينما وقعت الخاصة بي بسبب تدافع الطلبة في الحانوت.
أتذكر اني كنت أفضل طعام والدتي على الوقوف في الطابور، اذ تنتهي الفرصة، وانا واقفة فقط.
فلا اشتري الطعام ولا أتمتع بالجري واللعب مع زملائي وتكمل لي عن محمد الذي بدأ عمله الاول بطرق منزل صديقهم انور الصابئي، والطلب منه بغاية الادب، ترك المنزل والخروج فورا، بعدها بعدة اسابيع لم يفعل شيئا، سوى تكسير باب منزل مارتن واخراجه بالقوة وعائلته ثم تهجريهم.
-بالطبع لم يكونا انور او مارتن وحدهما من تعرضا للتهجير، لكن الاخبار كانت تصلني بخصوص اصدقاء الابتدائية دائما. لم ولن اتخيل ان كل ذلك سيحدث. كنت اشعر دائما اننا سنبقى رغم الحرب.
وفيما تعجن في خانة الالم روحها، صادفته يوما في طريقها ، ارادت ان تلقي عليه تلك النظرة المتروكة في الابتدائية لكنها لم تكتف بذلك. تقدمت نحوه، وصرخت
-هذا مو محمد الگالت عليه ست سوسن راح يصير العبقري الاشهر بالعراق ويومها گضيته بجي لان مدحتك اكثر مني! هذا واحد ممسوخ وراح ينهي نفسه بنفسه!
في الثالثة بعد الفجر، كان الطرق خفيفا وسريعا على منزلها، ليترك رسالة مغلفة مع رصاصة وبخط رديء يحث على ترك المنزل بعد ايام.
-ولم استطع رؤيته عند رحيلنا.
بعد ثماني سنوات من تلك الليلة. حيث تقيم صديقتي في السويد، يصل صندوق بريدها الفيسبوكي.
رسالة اعتذار طويلة من صديق الابتدائية الذي كان سبب خروجهم يوما من العراق!
-لقد ترك العراق وترك جماعته المسلحة. يعاني اضطرابات داخلية بسبب ما كان يفعله.
اخبرني انه حاول الانتحار مرات ومرات بسبب نظرات من هجرهم له، يعيش منعزلا ويبحث عنا للاعتذار عما فعله!
-وهل سامحته؟
-بالطبع! انه يحاول المستحيل للخروج من تعذيبه. فكيف لي ان ازيده؟ الحياة لا تستحق كل ذلك. ولا اذى اكبر من تأنيب ضمير يدق في الرأس!