الناس ليسوا بحاجة إلى الله ليتقاتلوا:
تذكرنا فضائع داعش بمثيلاتها البعيدة؛من
أزمنة الحروب الدينية ،بين الكاثوليك والبروتستانت(1561-1598)،وحروب
"فيندي" vendée،بين قادة الثورة الفرنسية ،
من جهة
والنبلاء والمزارعين،من جهة أخرى(1793-1795)؛كما تذكرنا بمثيلاتها القريبة منا:
حروب يوغوسلافيا ،بين صربيا وكرواتيا(بدءا من
ماي1991).
إن جز الرؤوس،واسترقاق الصبايا ،تضاهي ،وحشية،أعمال السلب ،الحصار،المحارق ،والاغتصاب
الجماعي.
تفرض الحروب الدينية والأهلية، أن يتواجه
أشخاص ظل يجمع بينهم – في الأحوال العادية- القرب والمواطنة الواحدة،وأحيانا جوار
الحي الواحد.ومن هنا سَعْي كل طرف إلى تبرير جرائمه ،بتحميل أوزارها للطرف الآخر. وفي هذا تختلف هذه الحروب عن الحروب التقليدية
،حيث تتواجه، في ساحات القتال ،قوات نظامية.
نُذكر هنا بحقيقة إحصائية أساسية، تُفند
الاعتقادَ السائد؛وهي كون ضحايا الحروب الدينية الخالصة (كربلاء،"سان
بارتيليميSaint-Barthélemy"،حرب الثلاثين سنة،الهندوس ضد
المسلمين) أقل من ضحايا الحروب بين الدول،الحروب الأهلية والديكتاتوريات.
لا مسؤوليةَ مباشرة للديانات في أغلب المآسي التي أدمت كوكبنا ، في
الماضي وإلى بزوغ فجر الألفية الميلادية الثالثة.
إذا استثنينا حروب الانفصال بين الهند
وباكستان ،فقد ظل الدين غائبا عن المآسي الكبرى للقرن العشرين (أكثر من مائة مليون
ضحية): الحربان العالميتان،القمع النازي والشيوعي ،الإبادة الجماعية( ما تعرض له
اليهود ،كما الأرمن والتوتسي،لم يحصل بسبب ديانتهم بل لمزاعم عرقية).
لقد بلغت الأضرار التي ارتكبتها الأنظمة
الملحدة مدى شاسعا ؛بكل من ألمانيا ،الاتحاد السوفييتي ،والمكسيك ؛ما بين سنتي
1910 و1940؛وبعد هذا في الصين والكامبودج.
تحت وقع الرغبة الجامحة في محو الماضي كلية
،وبصفة خاصة الجانب الديني منه ؛قتل لينين،هيتلر، ستالين ،ماو تسي تونغ،و بولبوت..عشرات
الملايين من الأبرياء؛ أكثر –على سبيل المثال- مما قتله كل ملوك أوروبا ،بدءا من
سنة 1000م.
وفي جميع الأحوال أكثر جدا من ضحايا كل المتعصبين الدينيين الذين عرفهم التاريخ.
لا يوجد ،وبدون شك، غير مغول
"جنكيزخان" و"تيمورلنغ" لمضاهاة السبق الإجرامي البئيس للقرن
العشرين.
فسواء تعلق الأمر بعبدة الشيطان chamanistes ،مسيحيين ،
نساطرة،بوذيين أو مسلمين ؛فان القتل لم يكن يتم باسم
الدين ،أو بدافع إيديولوجي ما ،بل "للمتعة" فقط.
إذا ارتقينا في الزمن الماضي ،نجد أن
الانشغالات الدينية ظلت غائبة عن الحروب القديمة؛ سواء في مجال البحر الأبيض
المتوسط أو بقية العالم. لقد كانت المدن
الإغريقية تمجد نفس الآلهة ؛ورغم هذا عرفت مواجهاتها وحشية كبيرة ،إلى حد إعمال
السيف في كل المنهزمين . نفس الشيء يقال عن إفريقيا ،والى حدود فجر الأزمنة
المعاصرة . لقد تمكن "شاكا"CHAKA من تأسيس دولة
"الزولو"، في مستهل القرن التاسع عشر ،وفق أساليب لا تقل في شيء عن نهجي
ستالين وبول بوت.
في القرون الوسطى،يجب أن نسجل أن الحروب
الصليبية بدت وكأنها كانت حروبا دفاعية أكثر منها دينية أو مقدسة.
لقد كان الهدف الأول منها إعادة تأمين طريق الحج لنصراني إلى الأراضي المقدسة ؛ووضع حد لمداهمات
قطاع الطرق من الأتراك الرحل. وإذا كان الصليبيون قد حاربوا بالقسوة المعروفة
للحروب وقتها ،فإنهم في المقابل لم يسعوا إلى تنصير المسلمين ،أو إبادتهم.
وغير بعيدة عنا حرب ايرلندة ،الصراع
الفلسطيني الإسرائيلي ،وحرب الجزائر أيضا ؛إنها تماثل المواجهات الكولونيالية بين
الساكنة الأصلية والمحتلة،لنفس الأراضي. إن الحروب القريبة جدا ، قبل الفورة الإسلامية،تَواجَه
فيها أشخاص من نفس الديانة(
دارفور،الكونغو،إيران والعراق..) لدواعي عرقية أو وطنية.
هل يعني هذا ألاّ علاقة لله بالحروب؟
بلى ..، لكن ليس دائما بالكيفية التي نتصور.
الله يؤلف..
لنتذكر المعنى الأصلي لكلمة Religion(دين)،المتحولة عن الأصل اللاتيني relegere الذي يعني "relier"،وهي بمعاني ربط ،وصل وعقد(
قارن مع :العقيدة).
من شأن الدين أن يؤلف بين الناس ويُقرب بينهم
؛كما يقرب الجسرpont بين ضفتي النهر. هذا ما جعل
الرومان يوكلون تنظيم الحفلات الدينية للقاضي ،وهو المكلف،في نفس الوقت، بتعهد
الجسور:le pontife. وارثه البعيد – اليوم- هو قداسة
البابا فرونسوا.
لقد تمكن المصريون،على مدى ثلاثة ألاف سنة،
بمعزل عن العالم الخارجي ،وبتأثير حب عميق للحياة ، من بناء ديانة
باسمة،موجهة لكبح الموت.
أما الرومان ،وقد كانوا أكثر تورطا في
الحروب،فقد طوروا ديانة مدنية يعود لها الفضل في تقوية لُحمة الجسد الاجتماعي ،حول
طقوس عامة وخاصة ،مقننة بعناية.
هذه الانشغالات كانت نفعية ،أساسا: اتخاذ
قرارات صائبة باللجوء إلى العِرافة divination؛ الاستشفاء بالاستعانة بالآلهة ..
لا صوفيةَ هنا ؛أما الشعراء والمفكرون
اللاتين، فاهتمامهم بالدين كان مُنعدما تقريبا؛ ولم يكن الموت ،استشهادا، من أجل الإله
"زوس" و "هيرا"، ليغري
أي روماني إطلاقا.
نعثر على شبيه لهذه الديانة المدنية في الصين
؛حول "الكونفوشيوسية " ؛وأكثر قربا منا في الولايات المتحدة الأمريكية ،حيث تُولي الكنائس المسيحية العديدة ،التي انتشرت
بدءا من القرن الثامن عشر ،الأهمية للفضائل المدنية ،على حساب التأمل الروحي.(هذا
الوضع آخذ ،ربما ،في التغير؛بتأثير تزايد الكنائس الإنجيلية في الجنوب العميق،المختلط الأعراق.)
هذا التدين الهادئ يناسب الإمبراطوريات التي
لا تعاني من أي تهديد .أي شعب كان أقل روحانية من الانجليز ؛زمن مجدهم خلال القرن
التاسع عشر؟
نلاحظ أيضا شكلا من الإسلام الهادئ في
الإمبراطورية العربية الفارسية ،ببغداد،والإمبراطورية العثمانية بالقسطنطينية ،في
ذروة مجدهما.
ابتدأ هذا التاريخ في القرن السابع ؛حينما
غادر الفرسان العرب شبه الجزيرة الصحراوية للاستحواذ على ثروات جيرانهم ؛أكثر من
أسلمة أرواحهم .لقد حققوا مبتغاهم ،دون صعوبات كبيرة ؛اعتبارا لحالة التحلل
المتقدم ، التي كانت عليها الإمبراطوريات القديمة.
لكن بعد إخضاع العالم ،من المحيط الأطلسي إلى
الهندي ؛وجدوا أنفسهم في القرن الموالي مجرد تابعين للفرس.
هكذا ازدهرت في بغداد ثقافة انتقائية ،خصبتها
ثقافات الهند،فارس،واليونان. في بلاط الخليفة البغدادي غنى الشاعر أبو نواس
(757-809)،كما لم يغن أحد،حب الحياة،النساء ،الغلمان والخمر.
لعله من المهم جدا تحدي "الخليفة"
الحالي بالرِّقة ،وأتباعه ،بهؤلاء المسلمين الذين رفعوا الإسلام عاليا ؛كما لن
يتحقق لهم أبدا.
الله يحمي..
ستنهار هذه الحياة السعيدة ،حوالي سنة 1000م.
بالقدس عمد الخليفة الفاطمي في القاهرة، سنة 1009م- في نوبة تعصب- إلى هدم القبر
المقدس ؛أما الأتراك الرحل فقد بثوا الفزع في أرجاء الشرق الأوسط ،وصولا إلى تهديد
الإمبراطورية البيزنطية ؛ثم شرعوا في اعتراض طريق الحجاج المسيحيين الغربيين المسالمين
؛وهذا ما استدعى تدخل الصليبيين ،كما مر معنا.
هل يجب أن نتعجب؟ ففي نفس الزمن صار الدين
ملاذا للأرواح القلقة .في سنة 1009م أصدر الخليفة القادر ببغداد ما عرف بالرسالة
القادرية ؛وقد تضمنت منع كل تفسير جديد ،وإغلاق باب الاجتهاد في وجه المسلمين .سيقتل
هذا القرار الروح النقدية،وسيفتح المجال واسعا للتقليد المنحط.
بعد الأتراك ،ثم المغول ،ستعرف المجتمعات
الإسلامية تطورا ذاتيا ،هادئا وخلاقا،إلى حد ما.
هكذا ففي الأندلس ،و في المغرب، الذي حافظ
،بفخر، على استقلاله عن الشرق ،إلى يومنا هذا ( مع استثناء فترة الحماية التي لم
تدم طويلا)؛وكذلك الأمر بالنسبة لإيران(فارس) ،وسلطنة دلهي ؛حافظت المجتمعات الإسلامية على ساكنة غير مسلمة ؛تبدوا أحيانا
غالبة ،كما هو الشأن بالنسبة للهند.
في نهاية العصر الوسيط سيدخل العثمانيون الإسلام
المتوسطي ،والشرق أوسطي ، في سُبات طويل؛لن يستفيق منه إلا في القرن التاسع عشر؛ بفعل ضربات الغربيين ،وفي
مقدمتهم نابليون بونابرت.
بارتقائنا في الزمن الماضي سنلاحظ نفس البحث
عن الإله الحامي ،لدى الشعوب التي عانت؛بدءا من الشعب العبري.
مرت قبائل إبراهيم الاثنا عشر،التي استقرت
بأرض الميعاد، بمِحن متتابعة في الألفية الأولى قبل الميلاد؛من غزو الأشوريين سنة
721 ق.م ،إلى السبي البابلي سنة 597 ق.م. لقد تم تحريرهم من طرف الملك الفارسي
الكبير "ساريوس" الثاني؛لكن ليخضعوا بعد هذا
لسلطة الأسكندر الكبير وخلفائه.
هؤلاء العبرانيون الذين عاشوا فوق إحدى أخصب
الأراضي في العالم ؛عرفوا نموا ديموغرافيا كبيرا.لقد بلغ عددهم بفلسطين وحدها
،أزيد من مليون نسمة؛أما الشتات حول حوض البحر الأبيض المتوسط فقد كان ،بدون شك،كثيرا
كذلك . ربما وصل عددهم ،في المجموع، إلى
عشر ساكنة المنطقة.
أفضت بهم المحن التي عاشوها إلى تثبيت هويتهم
عبر الرابط المتوارث الذي يصلهم بربهم. هكذا عمد كتبة ،أو علماء يهود، ما بين 500
و150 ق.م،إلى تجميع الأرشيف والنصوص القديمة لمجتمعهم ،في ما سيصبح التوراة.عبر هذا التجميع يؤكدون على الرابط
الذي يصلهم باله واحد؛طالما ناصرهم ،عبر عدد
من الإشارات، خلال الأحداث التي مرت بهم.
وفي الواقع فان الجماعات الإسرائيلية ،حتى
وهي شتات منتشر في الأرض كلها،ستصمد إلى أيامنا هذه لكل أشكال الاضطهاد ؛بما فيها
الأشد قسوة،دون أن تفقد،أبدا،الثقة.
ومرة أخرى أدى عنت الأزمنة،تفكك النخب
،والهجمات المتوحشة ،في القرنين الثالث والرابع الميلاديين ،بمواطني الإمبراطورية
الرومانية إلى الإيمان بالإله الذي حمى اليهود؛ من خلال نسخته المسيحية؛مسيح مبعوث
لإنقاذ الناس وتوجيههم صوب الحياة الأبدية.
سيبدو هذا الإله مواسيا ،عبر مراحل طويلة
وقاسية ،توالت فيها هجمات البرابرة؛ثم سيصبح أكثر حِماية لأنه ،وبدءا من سنة
1000م،لن تعاني المسيحية الغربية من أي هجمات ،كيفما كانت،والى أيامنا هذه...وهذا
استثناء في التاريخ العالمي.
بفعل الاستقرار الدائم ،جراء انعدام التهديد
الخارجي،سيعم السلام المجتمعات الأوروبية ،تحت رعاية رجال الدين ؛مما سيفضي إلى ميلاد دول القانون
؛وهي أساس كل تقدم.
هذه المجتمعات الملتحمة ،جراء الاعتقاد في
نفس الإله،والخضوع لنفس السلطة الدينية، ستُظهر قسوة شديدة في مواجهة إرهاصات
الطائفية الدينية. هكذا تمت محاربة "الكاتاريس"kathares(هراطقة بتولوز والجارون:منتصف
ق13م) بقوة السلاح ومحاكم التفتيش؛
بكيفية أشد شراسة مما حصل مع مسلمي الشرق
الأدنى.
في القرن السادس عشر بدت الدول الأوروبية
وشعوبها أشد ثقة في قوتها ؛مما جعلها في غنى عن الحماية ،المهيمنة نوعا ما، لكنيسة
روما. على هذا تأسس الإصلاح "اللوثري" الذي ستعقبه الحروب الدينية.
ترتب عن هذه الحروب مضي الأوروبيين ،تدريجيا،
صوب وفاق يُصالح بين الإلحاد المناضل ،اللامبالاة اللاأدرية،و التدين
الهادئ"على الطريقة الأمريكية". سيستدعي هذا الوضع ،سنة2000،تصريحا
للبابا "جون بول " الثاني؛يعبر عن خيبة أمله:
"لأول مرة في تاريخ البشرية ،يوجد إنسان
يعيش ،كما لو أن الله لا وجود له: انه الإنسان الأوروبي."
الله يحرر:
يتبع.
بتصرف عن:
. HERODOTE مجلة:JOSEPH
SAFEZ : Dieu aime-t-il la guerre ?
Sidizekri.ahlablog.com