إقتباس عن القدس العربي وباتفاق مع الكاتب
مرت سنوات على بدايات الاقتتال في اليمن وليبيا وسوريا والعراق. وبدأ الحديث عن التفاوض والهدنة، في الصخيرات، والرياض والكويت وجنيف، وتدخلت في محاولات
التفاوض أطراف عربية تارة، ودولية أو أممية طورا. وبات الحلم معلقا على أن ما نجم من أحداث عما يسمى بالربيع العربي، في هذه الأقطار، قاب قوسين أو أدنى من أن يسدل ستارا معتما على ما جرى. لكن تبين مع انصرام الزمن أن الذهنية التي دخلت الحرب هي نفسها التي تدخل في السلم. فإذا التفكير في السلم حرب، وممارسة الحرب ليست سوى تسليم بضرورة استمرارها حتى لا تضع الحرب أوزارها.
إنها ذهنية الكر والفر كما كانت تمارس قبل الإسلام حين كانت تتغلب العنجهية القبلية، أو «الجهل فوق جهل الجاهلين» على أي منطق، وتعلو على أي تفكير يمكن أن يتعالى على منطق الحرب. فتستغل بذلك أي فرصة للقضاء والإجهاز على الآخر. لكن العرب في الجاهلية كانوا مع ذلك يحترمون العهود والمواثيق الذي يبرمونها بينهم في أيام الحرب، ويعتبرون نقضها دليلا على الخسة والحقارة. ومعنى قبول التفاوض، أو التفكير فيه، التسليم برضى ما يمكن أن ينجم عنه. لكن ما تقدمه لنا الأمثلة الدامغة عما يجري في سوريا واليمن وليبيا أن التفاوض والهدنة ليسا سوى مبررات لخرق الاتفاقات، وقطع السبيل أمام أي إمكانية للمصالحة، مع العمل على ممارسة الحرب على الآخر بشدة أكثر. وما جرى في حلب وتعز خير شاهد على ذلك. أليست هذه ذهنية الكر والفر التي تتجاوز زمن الحرب، وتمتد إلى فترة التفاوض؟
كثيرا ما أطالع أو أسمع أمام هول الفظائع التي ترتكب في المناطق المستعرة في الوطن العربي، دعوات وصراخات تدين الضمير العالمي أو تستنهض الضمير الإنساني. وفيما وقع في حلب كان مدعاة إلى التذكير بـ»شارلي»، مع استنكار هبّة «الضمير» العالمي لما وقع في باريس، مع ما يقابله من الصمت المريب لما يقع في حلب، وفي غيرها من المناطق التي تتعرض للتدمير؟ لكني من جهتي أتساءل عن معنى «الضمير» العالمي والإنساني؟ وأجعل السؤال يتسع ليشمل شيئا يمكن أن نسميه «الضمير» العربي والإسلامي؟
إن هذا الضمير العالمي والإنساني هو الذي يمارس الحرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق. فأي ضمير يمكن أن نستنهض والكل منخرط في الكر والفر، بكيفية مباشرة، أو غير مباشرة؟ روسيا، على سبيل التمثيل، تدعي أنها إبان الهدنة في حلب، لم تكن تحارب المعارضة السورية، ولكنها كانت توجه ضرباتها القاصمة لإرهابيي «داعش»! ويمكن قول الشيء نفسه عن اليمن حيث المفاوضات في الكويت، بينما الحرب توسع دائرتها إلى الجنوب؛ وكل يسعى إلى تقوية مواقعه وتوسيع نطاقها، إما بوازع فرض مكاسب جديدة في التفاوض، أو بدعوى خرق الطرف الآخر للهدنة، فتكون بذلك الحرب أشد وأعنف في لحظة التفاوض منها في غيرها من فترات الحرب قبل بدء المفاوضات. فتتضاعف أعداد المهجرين، وآثار الدمار، إلى الحد الذي يمكن الذهاب فيه إلى أن فترة الحرب العادية بدون مفاوضات كانت أهون وأسهل منها في فترات التفاوض.
في أي حرب يمكن الحديث، وخصوصا مع مرور الزمن، عن احتمال انتصار فئة، وانهزام أخرى. أو أن كفة ما تميل لفائدة جهة على غيرها. في هذه الحروب، لا نجد سوى صور أخرى من هذا الكر والفر، حيث لا غالب ولا مغلوب. تم الإخبار مرارا عن تراجع داعش، في العراق، من منطقة استولت عليها، ونتصور أن الجيش والميليشيات ومن فوقهما التحالف يتجهون إلى استكمال تحرير المناطق المجاورة وصولا إلى الموصل. ثم سرعان ما يتم التصريح بأن داعش استعادت بعض تلك المناطق، أو أنها نقلت دائرة نفوذها إلى جهة أخرى؟ ونلاحظ الشيء نفسه في حرب النظام السوري ضد المعارضة، وحرب الحوثيين وأتباع صالح، حيث لا نجد الحرب سوى سجال يتم فيه تبادل المواقع. أو ليست هذه هي حرب الكر والفر؟ فكيف يمكن أن تتطور هذه الحرب؟ وهل يمكنها أن تضع أوزارها؟ وهل بقي لها من معنى أو دلالة بعد انصرام كل هذه السنين؟
نطرح هذه الأسئلة لأننا لا نرى فرقا بين ممارسة الحرب، أو الذهاب إلى طاولات المفاوضات. الكر والفر يسودان الممارستين معا. وكلاهما تعبير عن ذهنية لا علاقة لها بالعصر. ولا مجال للخروج من هذه الحلقة المفرغة. كثيرا ما تحدثنا عن ضرورة دخول العرب العصر الحديث، ولكننا عمليا نجدهم يتصرفون بشكل لا علاقة له بالعصر. تساءلنا عن الضمير العربي، فوجدناه مثخنا بالجراح. فما أن هب الشعب للخروج مطالبا بالخبز والحرية ومحاربة الفساد، حتى تم الالتفاف على مطالبه الحيوية ومورست عليه الحرب. وها هي تداعياتها تفقأ العقل قبل العين. أما الضمير الإسلامي، فقد بات بدوره في طي النسيان، وقد قتلته الطائفيات وأصناف التكفير، والإمارات التي تريد إقامة الخلافة، أو التي تحلم بفرض الإمامة. والكل يدعي أنه الممثل الشرعي والوحيد للإسلام. جاء الإسلام بثقافة مختلفة للحرب عما كان سائدا قبله، فهل هناك ممارسة لذلك في هذه الحرب التي تحاك باسم الإسلام، أو تلك التي ما تزال تعتمد على قواعد العنجهية والجهالة؟ كيف يمكن أن يكون التفاوض بين مختلف الأطراف، والحرب مستعرة؟ وهل لهدنة أن تكون لأسباب إنسانية: إيصال المساعدات مثلا، وفي الوقت نفسه يتم خرقها بصورة أقوى؟ بادعاءات لا مبرر لها ولا مسوغ غير استغلال الظرف لتوسيع دائرة الحرب على المدنيين والأطفال وتعريضهم للتشرد والهجرة؟
في خضم هذه الحرب، تستمر معاناة الإنسان العربي الذي يعيش في هذه الأقطار، فيتعرض للمزيد من الإهانات والمعاناة في الهجرة، وقد بات ضحية «الإرهاب» الذي يحاربه الإرهاب. وفي الوقت نفسه تزداد عزلة القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني التي تضاعفها إسرائيل مستغلة هذا الظرف، بل ومنخرطة بدورها في محاربة الإرهاب.
إنهم يشرِّعون الإرهاب، وقد اتخذه كل واحد ذريعة، ليمارسوا حروبا إرهابية ضد الإرهاب. إنها إمارات على أقذاء وهدنات على دخن، فكيف يمكن الخروج من دائرة مغلقة لا يريدون سوى إحكام إغلاقها على أي حل محتمل، أو سلم يضمن الحياة للجميع؟ إنهم وهم يشرعون الإرهاب لا يعملون إلا على تأجيج خطابات الكراهية والحقد والعدوان، فمن أين للتفاوض أو المصالحة أن تنفذ من خلال هذه الممارسات؟
استمرار الكر والفر تحت نيران القصف أو بالموازاة مع ما يعتبرونه مفاوضات لا يعني سوى الرغبة، من لدن الطوائف والنعرات والتدخل الدولي باختلاف مسمياته، في إدامة هذه الحرب. وإذا كان الكل حسب تصوره للحرب، يرى أنها حرب على «الإرهاب» بمختلف صوره وأشكاله، على اعتبار أن الإرهاب حسب المنظور السائد مختزلا في «داعش»، فإن كل طرف يخلق له «داعش» التي يحاربها، والتي باسمها يحارب الإرهاب. لكن الواقع يثبت أنها ليست حربا على «داعش» الشماعة التي يدعي الكل محاربتها، ولكنها حرب ضد الإنسان، بغض النظر هل هو عربي أو كردي، سني أو شيعي، أو مسيحي، وهي فوق كل هذا وذاك كر وفر ضد الأرض والبيئة والمستقبل. فهل ثمة متسع للوقت ليستيقظ شيء اسم «الضمير» الإنساني لإيقاف هذه المهزلة ـ المأساة؟
كاتب مغربي
مرت سنوات على بدايات الاقتتال في اليمن وليبيا وسوريا والعراق. وبدأ الحديث عن التفاوض والهدنة، في الصخيرات، والرياض والكويت وجنيف، وتدخلت في محاولات
التفاوض أطراف عربية تارة، ودولية أو أممية طورا. وبات الحلم معلقا على أن ما نجم من أحداث عما يسمى بالربيع العربي، في هذه الأقطار، قاب قوسين أو أدنى من أن يسدل ستارا معتما على ما جرى. لكن تبين مع انصرام الزمن أن الذهنية التي دخلت الحرب هي نفسها التي تدخل في السلم. فإذا التفكير في السلم حرب، وممارسة الحرب ليست سوى تسليم بضرورة استمرارها حتى لا تضع الحرب أوزارها.
إنها ذهنية الكر والفر كما كانت تمارس قبل الإسلام حين كانت تتغلب العنجهية القبلية، أو «الجهل فوق جهل الجاهلين» على أي منطق، وتعلو على أي تفكير يمكن أن يتعالى على منطق الحرب. فتستغل بذلك أي فرصة للقضاء والإجهاز على الآخر. لكن العرب في الجاهلية كانوا مع ذلك يحترمون العهود والمواثيق الذي يبرمونها بينهم في أيام الحرب، ويعتبرون نقضها دليلا على الخسة والحقارة. ومعنى قبول التفاوض، أو التفكير فيه، التسليم برضى ما يمكن أن ينجم عنه. لكن ما تقدمه لنا الأمثلة الدامغة عما يجري في سوريا واليمن وليبيا أن التفاوض والهدنة ليسا سوى مبررات لخرق الاتفاقات، وقطع السبيل أمام أي إمكانية للمصالحة، مع العمل على ممارسة الحرب على الآخر بشدة أكثر. وما جرى في حلب وتعز خير شاهد على ذلك. أليست هذه ذهنية الكر والفر التي تتجاوز زمن الحرب، وتمتد إلى فترة التفاوض؟
كثيرا ما أطالع أو أسمع أمام هول الفظائع التي ترتكب في المناطق المستعرة في الوطن العربي، دعوات وصراخات تدين الضمير العالمي أو تستنهض الضمير الإنساني. وفيما وقع في حلب كان مدعاة إلى التذكير بـ»شارلي»، مع استنكار هبّة «الضمير» العالمي لما وقع في باريس، مع ما يقابله من الصمت المريب لما يقع في حلب، وفي غيرها من المناطق التي تتعرض للتدمير؟ لكني من جهتي أتساءل عن معنى «الضمير» العالمي والإنساني؟ وأجعل السؤال يتسع ليشمل شيئا يمكن أن نسميه «الضمير» العربي والإسلامي؟
إن هذا الضمير العالمي والإنساني هو الذي يمارس الحرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق. فأي ضمير يمكن أن نستنهض والكل منخرط في الكر والفر، بكيفية مباشرة، أو غير مباشرة؟ روسيا، على سبيل التمثيل، تدعي أنها إبان الهدنة في حلب، لم تكن تحارب المعارضة السورية، ولكنها كانت توجه ضرباتها القاصمة لإرهابيي «داعش»! ويمكن قول الشيء نفسه عن اليمن حيث المفاوضات في الكويت، بينما الحرب توسع دائرتها إلى الجنوب؛ وكل يسعى إلى تقوية مواقعه وتوسيع نطاقها، إما بوازع فرض مكاسب جديدة في التفاوض، أو بدعوى خرق الطرف الآخر للهدنة، فتكون بذلك الحرب أشد وأعنف في لحظة التفاوض منها في غيرها من فترات الحرب قبل بدء المفاوضات. فتتضاعف أعداد المهجرين، وآثار الدمار، إلى الحد الذي يمكن الذهاب فيه إلى أن فترة الحرب العادية بدون مفاوضات كانت أهون وأسهل منها في فترات التفاوض.
في أي حرب يمكن الحديث، وخصوصا مع مرور الزمن، عن احتمال انتصار فئة، وانهزام أخرى. أو أن كفة ما تميل لفائدة جهة على غيرها. في هذه الحروب، لا نجد سوى صور أخرى من هذا الكر والفر، حيث لا غالب ولا مغلوب. تم الإخبار مرارا عن تراجع داعش، في العراق، من منطقة استولت عليها، ونتصور أن الجيش والميليشيات ومن فوقهما التحالف يتجهون إلى استكمال تحرير المناطق المجاورة وصولا إلى الموصل. ثم سرعان ما يتم التصريح بأن داعش استعادت بعض تلك المناطق، أو أنها نقلت دائرة نفوذها إلى جهة أخرى؟ ونلاحظ الشيء نفسه في حرب النظام السوري ضد المعارضة، وحرب الحوثيين وأتباع صالح، حيث لا نجد الحرب سوى سجال يتم فيه تبادل المواقع. أو ليست هذه هي حرب الكر والفر؟ فكيف يمكن أن تتطور هذه الحرب؟ وهل يمكنها أن تضع أوزارها؟ وهل بقي لها من معنى أو دلالة بعد انصرام كل هذه السنين؟
نطرح هذه الأسئلة لأننا لا نرى فرقا بين ممارسة الحرب، أو الذهاب إلى طاولات المفاوضات. الكر والفر يسودان الممارستين معا. وكلاهما تعبير عن ذهنية لا علاقة لها بالعصر. ولا مجال للخروج من هذه الحلقة المفرغة. كثيرا ما تحدثنا عن ضرورة دخول العرب العصر الحديث، ولكننا عمليا نجدهم يتصرفون بشكل لا علاقة له بالعصر. تساءلنا عن الضمير العربي، فوجدناه مثخنا بالجراح. فما أن هب الشعب للخروج مطالبا بالخبز والحرية ومحاربة الفساد، حتى تم الالتفاف على مطالبه الحيوية ومورست عليه الحرب. وها هي تداعياتها تفقأ العقل قبل العين. أما الضمير الإسلامي، فقد بات بدوره في طي النسيان، وقد قتلته الطائفيات وأصناف التكفير، والإمارات التي تريد إقامة الخلافة، أو التي تحلم بفرض الإمامة. والكل يدعي أنه الممثل الشرعي والوحيد للإسلام. جاء الإسلام بثقافة مختلفة للحرب عما كان سائدا قبله، فهل هناك ممارسة لذلك في هذه الحرب التي تحاك باسم الإسلام، أو تلك التي ما تزال تعتمد على قواعد العنجهية والجهالة؟ كيف يمكن أن يكون التفاوض بين مختلف الأطراف، والحرب مستعرة؟ وهل لهدنة أن تكون لأسباب إنسانية: إيصال المساعدات مثلا، وفي الوقت نفسه يتم خرقها بصورة أقوى؟ بادعاءات لا مبرر لها ولا مسوغ غير استغلال الظرف لتوسيع دائرة الحرب على المدنيين والأطفال وتعريضهم للتشرد والهجرة؟
في خضم هذه الحرب، تستمر معاناة الإنسان العربي الذي يعيش في هذه الأقطار، فيتعرض للمزيد من الإهانات والمعاناة في الهجرة، وقد بات ضحية «الإرهاب» الذي يحاربه الإرهاب. وفي الوقت نفسه تزداد عزلة القضية الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني التي تضاعفها إسرائيل مستغلة هذا الظرف، بل ومنخرطة بدورها في محاربة الإرهاب.
إنهم يشرِّعون الإرهاب، وقد اتخذه كل واحد ذريعة، ليمارسوا حروبا إرهابية ضد الإرهاب. إنها إمارات على أقذاء وهدنات على دخن، فكيف يمكن الخروج من دائرة مغلقة لا يريدون سوى إحكام إغلاقها على أي حل محتمل، أو سلم يضمن الحياة للجميع؟ إنهم وهم يشرعون الإرهاب لا يعملون إلا على تأجيج خطابات الكراهية والحقد والعدوان، فمن أين للتفاوض أو المصالحة أن تنفذ من خلال هذه الممارسات؟
استمرار الكر والفر تحت نيران القصف أو بالموازاة مع ما يعتبرونه مفاوضات لا يعني سوى الرغبة، من لدن الطوائف والنعرات والتدخل الدولي باختلاف مسمياته، في إدامة هذه الحرب. وإذا كان الكل حسب تصوره للحرب، يرى أنها حرب على «الإرهاب» بمختلف صوره وأشكاله، على اعتبار أن الإرهاب حسب المنظور السائد مختزلا في «داعش»، فإن كل طرف يخلق له «داعش» التي يحاربها، والتي باسمها يحارب الإرهاب. لكن الواقع يثبت أنها ليست حربا على «داعش» الشماعة التي يدعي الكل محاربتها، ولكنها حرب ضد الإنسان، بغض النظر هل هو عربي أو كردي، سني أو شيعي، أو مسيحي، وهي فوق كل هذا وذاك كر وفر ضد الأرض والبيئة والمستقبل. فهل ثمة متسع للوقت ليستيقظ شيء اسم «الضمير» الإنساني لإيقاف هذه المهزلة ـ المأساة؟
كاتب مغربي