-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

على لائحة الانتظار: إبراهيم يوسف

خاص 
على لائحة الانتظار: إبراهيم يوسف
1
الجنرال المأزوم
أخي ! إنْ عادَ بعدَ الحربِ جنديٌّ لأوطانِهْ
وألقى جسمَهُ المنهوكَ في أحضانِ خِلاّنِهْ
فلا تطلبْ إذا ما عُدْتَ للأوطانِ خلاّنَا
لأنَّ الجوعَ لم يتركْ لنا صَحْبَاً نناجيهم
     سوى أشْبَاح مَوْتَانا     
                                                                        "ميخائيل نعيمة"  
(1)"البيلسانة" بزهرِها العطريّ الأبيض، يحملُه النسيمُ إلى جنباتِ الدّارِ الواسعةِ المكشوفةِ على السماءِ الرحيمة، رفيقةُ دربٍ طويتُ أكثرَه ولم يبقَ منه إلا شمَّة سريعة، ومسافة قصيرة للوصولِ إلى نهايةِ الطريق. تلجأُ إليها السّنونو وعصافيرُ الدوريّ، ويلوذ بها النّحلُ وفراشُ (2)"الحواكير". تقومُ في زاويةٍ من زوايا الدارِ قريباً من البئرِ بعيدةً قليلاً عن شجرةِ الدّفلى؛ بجانبِ مستودعِ الحبوب، ويتَّسعُ بمقاييسِ اليومِ لبضعةِ "أطنانٍ" من القمحِ ومختلفِ أنواعِ الحبوبِ. هذه البئرُ تموِّلُها عبرَ الميزابِ مياهُ الثلوجِ والأمطارِ المنحدرةِ من السّطوح. تعيدُ إلى الأَذهانِ ذكرياتٍ أليمة عن المجاعةِ وأعمالِ السّخرة، وانتشارِ الجرادِ ووباءِ الجذري لتكتملَ المأساة.
تُسْتخدَمُ مياهُ البئرِ لريِّ أحواضِ الخُزامى والبنفسجِ والرّيحانِ، المنتشرةِ في الزّوايا وعلى جوانبِ الدّار، وفي الحاكورة حيث أثلامُ البندورةِ والباذنجان، (3)"ومساكبُ" البقولِ من البقدونس والخسّ والنعناع. كما تُسْتعمَلُ لسقيِ المواشي وكافةِ الأغراضِ المنزِليَّةِ الأخرى. أمَّا مياهُ الشّرب فمن (4)"حَاوُوْزٍ" في وسطِ القرية. تقفُ النسوةُ أمامَه بالدّورِ لملءِ جرارهِن، وتؤدِّي قلَّة الصّبر والعطشِ وقسوة الانتظار والحاجةِ المُلحّة للماء؛ إلى خلافٍ على الدّور واشتباكٍ بالأيدي؛ لا تتورطُ فيه عادةً إلاّ الصّبايا من البناتِ اليافعات، يقودُ أحياناً إلى تحطيمِ الأواني وشدِّ الشّعر، والمَشْهَدُ إذا استفحلَ لا يخلو مِنَ الإثارةِ في منظرِ السِّيقانِ تتمرغُ عاريةً في الوحل.
 تلكَ العينُ غيَّبَتْها داراتُ الآجُرِّ الأحمرِ والصنابيرُ اللامعةُ في المطابخِ والحمامات، وتحوَّلتْ إلى أثرٍ بَعْدَ عين فاختفتْ كما اختفى السنونو صديقُها ورفيقُ صباحاتِها والمساء بفعلِ حضارةِ الحَديدِ الإسمنتِ والقرميد، التي قضتْ على بيوتِ الطّينِ وسقوفِ الخشبِ يُعششُ فيها الدّوريّ والسنونو. هذا الطائرُ الرقيقُ يستوطنُ قلبَه وعينيه نورُ الحُسين، وحزنُ السّيدة زينب. كربلاءُ كانت موطنُه الأوَّل، منها أتى لينقلَ إلى الملأ مأساةَ الحُسين. كان شاهداًعلى ظُلمِه، تمرَّغَ وخضَّب عنقَهُ بدمائه لِيُعْفى من عذابِ النار، ومُذاك والحزنُ يفيضُ من عينيه، وعنْقهُ مخضَّبٌ بالدَّم. ومأساتُه لا تقلُّ إيلاماً عن صَلبِ المَسيح
في البئرِ مأساةٌ مختلفةً الفُصول حَفرَها في الصّخرِ هاربون من الجوعِ، من قرى الجبلِ في "كِسْرْوان" إبَّانَ الحربِ الكونيَّةِ الاُولى، حينما كان الناسُ يفتِّشون عن حبوبٍ في (5) رَوْثِ مُخلّفاتِ الحيواناتِ، تساعدُهم على بقائِهم على قيدِ الحياة. وحينما كانتِ الاُمُّ تتخلى عن رضيعِها على قارعةِ الطريق؛ بفعلِ الجوعِ ونشافِ ثديَيها من الحليب، ليتولاَّهُ قدرُه في الموتِ المَحتوم. ماتَ الناسُ جوعاً على حافةِ الطرقاتِ حُفاةً عراةً وبلا مأوى، أو قَضَوا مُتسَوِّلينَ في أزقةِ المدنِ الكبرى في زمنٍ لا يعرفُ رحمةً أو رجاء. يقولُ من شهِدَ المجاعةَ، أنَّ المرأةَ كانتْ لا تترددُ تبيعُ نفسَها ثمناً للطعام. ففي المجاعاتِ تتحوَّلُ المناسبةُ إلى فرصةٍ أرخص وأكثر ملاءَمةً للمساومةِ على أجسادِ النِّساء..! 
الموتُ جوعاً تواكلٌ وخنوعٌ وهزيمة وعملٌ لا يعرفُ معنى البطولة، كما يكونُ الموتُ المشرِّف في ساحاتِ الوغى أو بالقنا على صهواتِ خيلٍ لا تُضام. كما كانَ يطيبُ لنا فعله عبر تاريخ العرب الطويل. أو يكونُ رمياً برصاصٍ تتلقاهُ الصّدورُ العاريةُ إلاّ من الشَّعْرِ كما هي بعضُ حالِ اليوم، ممن قضوا من "النّصارى" والأزيديين والأكراد وغيرهم من خلقِ الله الكثير، بفعلِ التّعصّبِ والدناءة وغسلِ الأدمغة وعَمَى البصائرِ والقلوب. لكنّ الموتَ يبقى بطولةً وطنيّةً لا جدالَ فيها..؟ حينما ينتصرُ الدَّمُ على السَّيف وينتصرُ الشُّهَداءُ فيها على أعوادِ المشانق. كما فعلَ شهداؤنا في السادسِ من أيَّار، عندما أعدمتِ السلطاتُ العثمانية إبانَ الحربِ الكونيَّةِ الأولى، عدداً من الوطنيين السوريين الأحرار في كلٍّ من الشّامَ وبيروت.
ذلك الزّمنُ وتلك الأحوالُ البالغةُ السّوء؛ دفعَتْ بموجاتٍ من المهاجرينَ المهزومينَ الجائعين في بُلدانِهم إلى دنيا الاغتراب. أمَّا سكَّانُ جبلِ لبنان من (6)"بني معروف" فقد لجأوا إلى إخوانٍ لهم في العقيدة والدِّين في جبل (7) حوران من سوريا الشام.. منطقة غنيَّة بإنتاجِ الحبوبِ وأهمُّها القمح. حيث استمروا هناك طيلةَ زمنِ الحرب.. ومن بقيَ في البلادِ ممن تعذَّرَ رحيلُهم، أو أعيتهم الوسائلُ فهابوا السَّفرَ عبرَ البحارِ وآثروا الجوعَ على الهجرة. هؤلاء كانوا يَتوَسَّلون شتى الأعمالِ لقاءَ طعامٍ يكفي فقط للإبقاءِ على حياتِهم. هكذا تماماً حُفِرَتِ البئرُ في الدار.
في العام 1920، بعد الحربِ الكونيَّة الاُولى، أعلنَ الجنرال "غورو" دولة لبنان الكبير. هذا "القائدُ" المنكودُ كانَ بلا ريب بالغَ الخِسّة والدناءَة، ولم يكنْ مغواراً ولا بطلاً كما حَسِبوهُ في بلادِه. بل لعلَّهُ لم يكنْ مُحْترَماً حتّى في عيونِ زوجتِهِ أو جنودِ جيشِه..؟! حينَما خاطبَ صلاحَ الدين مقتحِماً عليه قبرَهُ شاهراً سيفهُ وهو يدُقُّ بحذائِه ضريحاً لا حولَ له ولا قوة قائلاً له: "ها قد عُدْنا يا صلاحَ الدِّين"..! لو أنصفَ الرجلُ وكانَ شجاعاً حقَّاً..؟ لخاطبَهُ بشجاعةِ الفُرسانِ العربِ وشهامتِهم؛ "أيَّامَ صلاحِ الدِّين"..! خطابَ الكبيرِ للكبيرِ قائلاً له: سلامٌ على الأبطال..! تاركاً سيفَهُ في غِمدِه خارجَ المدفنِ بعيداً من أسوارِه والقبور.
لكنّ "غورو" كانَ يفتقرُ إلى المَوْعِظةِ "الحسنة"عن حَتْمِية التاريخِ وعِبْرةِ الماضي.. عندما لم ينسَ مع قادةٍ آخرين هزيمتَهم في فلسطين..؟ فعادوا لاحتلالِ سوريا، وتوهّموا أنهم تمَكّنوا من ترتيبِ أحداثِ التاريخِ في إعادتِها إلى الوراء، لكنّهم فشلوا وخابتْ آمالُهم؛ عندما اكتشفوا مقدمَة ثورةٍ عارمة.. قادَها أبناءُ صلاحِ الدين وأحفادُهُ، أمثالَ الشهيد (8) يوسف العظمة؛ والشهيد (9) أدْهَم خنجر؛ "وصادق حَمزة الفاعور" وسواهم من الأبطالِ الميامين؛ ممن تصدوا للحملةِ الفرنسيَّة بصدورِهم العارية، ليحملَ المحتلُّ عصاهُ ويرحلَ؛ مهزوماً من جديد
ذلك الجنرالُ الأرْعَنُ المأزومُ المُعَقَّدُ من صلاحِ الدِّين في قبرِه.. أعلنَ قيامَ دولة "لبنان الكبير"، بضمِّ الساحلِ والبقاعِ والجنوبِ إلى جبلِ لبنان، خدمةً من فرنسا، "الأمّ الحنون" لأبناءِ الجبل من "الموارنة المسيحيين"، ممن يفتقرونَ في جغرافيةِ مناطقِهم إلى الزراعةِ والانفتاحِ على التوسعِ في اقتصادِهم. وفرنسا اليومَ تخلَّتْ عن جميع من تضامنتْ معهم بالأمس ولم تَعُدْ أمّاً حنوناً لأحد، وقد تحوّلتْ إلى راعية لمصالحِها وحسب. وأما الشارعُ في العاصمةِ بيروت باسمِ الجنرالِ المنكود، فلم تتجرأ على تغييره واحدةٌ من الحكوماتِ المتعاقبةِ مِن زمنِ الانتدابِ الفرنسيِّ الوبيل. كيفَ لا وكلُّ "الكيانِ الوطنيِّ المُركَّب" كان من غَرْسِ يمينه..!؟
على لائحة الانتظار
2
ساعة "لونجين
مُلكيَّةٌ واسِعَة من الأرضِ الخصبةِ المرويِّةِ بمياهِ اليَمّوُنَة شمالاً، حيثُ يصلُ حجمُ عِرناسِ الذّرة إلى حجمِ المولودِ الجديد، وطعمُ البطاطا فيها لا يقلُّ مذاقاً طيِّباً عن طعمِ القشدةِ الدّسِمة. تلكَ أهميةُ الأرضِ التي آلتْ الى أمّي وخالتي الوحيدتين من ميراثِ أبويهما في زمنِ الخوفِ والمجاعةِ والحرب. أحسنَ أبي إدارةَ ما يعنيهِ من أرضِ زوجتهِ، فاْضافَ إليها بأتعابه وحسنِ إدارتِه مُلكية اُخرى اْوسعَ منها واْخصب، وصارَ يؤجِّرُ لفلاحينَ آخرين، ما يزيدُ عن قدرتهِ في العمل. ويقضي الاتفاقُ غير المُدَوَّنِ بين الطّرفين بأن يؤمِّنَ مالكُ الأرضِ البذور، ويحتفظَ لنفسهِ بثلثيّ المحصول، بينما ينالُ الفلاحُ المنتفعُ بالكراءِ الثلثَ الباقي من الغلّةِ لقاءَ أتعابِه.
كان أبي قبلَ الحربِ وبعدَها فلاحاً نشيطاً، يتقنُ عملهُ و يعتني عناية خاصة بثوريهِ والمواشي المختلفة، وعليهِ تُقاسُ كفاءةُ الفلاحين ومهارتِهم في البلدةِ والجوار. كانَ مؤمناً بلا تطرُّف يُصَلي ويصومُ ويؤدي فريضة الزكاةِ في موعدها، وحجَّ أيضاً الى بيتِ اللهِ الحرام. مُعتدِلاً في صلواتِهِ وفي العباداتِ الأُخرى، مُقِلاً في الركوعِ والتراويحِ مؤمناً بفائدةِ العمل وقدسيتِهِ، فآثره عمَّا سواهُ من الأعمال والشؤون الاُخرى- حتى العبادة..! ألم يكنِ العملُ بديلَ القُوْتِ على الدوام..؟ ومن لا يعمل فلا ينبغي له أن يأكلَ كما قيل..؟ 
يعودُ إليهِ الناسُ للمشورةِ والفصلِ في خلافاتِهم، وإلى تخمينِ اْسعارِ الاْرض. قلّما فشلَ في التوفيقِ بينَ المتنازعين اْو ظلمَ أحداً في بيعٍ اْو شراء، من دخلَ بيتهُ غاضباً تركهُ قانعاً راضياً مطمئناً. لكنَّ طاحونة الماءِ وقد توقّفتْ عن العملِ بفعلِ مطاحنِ المحروقاتِ التي غَزَتِ الإقليم، والجرَّاراتِ الزراعية المُبْتكَرة القادمة حديثاً من بلادِ الإفرنج، التي يختزلُ الواحدُ منها في ساعاتٍ قليلة ما تقومُ به عشرَةُ ثيرانٍ في يومٍ كامل. هذه المُسْتجِدَّات كدَّرتْ عليهِ عيشهُ وتركتْهُ يتساءلُ فلا يجدُ جواباً واضِحاً على السؤال..؟ عما تؤولُ إليه أحوالُ الأبقارِ والفلاحين وبَرّاكُ الطاحونة "الدَّرويش" بعد أن تنتفيَ أدوارُ الجميع أمامَ هذه الثورة الصناعية التي لم تكنْ في الحسبان. فتعاملَ مع أخبارِها بجدِّيةٍ عاليةٍ وريبةٍ كبيرة، واعتبرَها في فترةِ التحَوُّلِ الحضاري هذا، مؤشّراً بالغَ الخطورةِ على أمانِ الفلاحينَ ومستقبلِهم في أموالِهم وأرزاقِهم.
لكنني حتَّى السّاعة لا زلتُ أجهلُ معنىً لحاجةِ فلاَّحٍ كأبي إلى ساعةِ "لونجين"؟!. سويسرية الصنع مذهَّبةٍ للجيب، تكلفُ ما لا يقلُّ عن ثمنِ ثوْرَيهِ محل عنايتِه ومصدرِ رزقه..! ما دامَ يذهبُ إلى حقلِهِ مع طلوعِ الفجر، ويعودُ إلى بيتِهِ بعد مغيبِ الشمس، ويتناولُ طعامَ الغداء عندما تتناقصُ الظلال، وترتفعُ الشمسُ إلى كبدِ السّماء، أو أقلّه عندما يشعرُ بالجوع..!؟ إلاَّ أن تكونَ الساعةُ عُنوانَ سعةٍ أو "وجاهة"..؟ أو أنَّهُ بالفطرةِ كانَ يدركُ معنى الوقت ويقيمُ حساباً للزمن..؟!
تصوَّرْ معي يا صديقي.. ساعةً حديثة باهظة الثمن في عصرنا هذا يقتنيها ثريٌ من كبارِ أثرياءِ الأرض..؟ تفُوقُ في سعرِها سيارة "رولس رويس" مقارنةً بالثورين ولونجين الأمسِ البعيد.. تلكَ هيَ المقاربة المعقولة. مهما يكنِ الأمرُ فقد اقتنى هذه الساعة وكان يَرْكُمُ نابِضَها الردَّاد قبل أن ينامَ، الثامنة من كلِّ مساء.
خرجَ يوماً إلى الحقلِ والساعةُ في جيبهِ كالعادة، وسلسالُها مربوطٌ إلى عروةِ زرٍ في سُترتِه. عادَ مساءً والساعةُ ليستْ مَعَهُ. وفي اليومِ التّالي تعبَ في التفتيشِ عنها. كادَ يهدُرُ كلَّ وقتِهُ في التفتيشِ عن آلةِ الوقت. نقَّبَ جيداً في ذاكرتِهِ لعلَّه يهتدي أين أضاعَها..؟ لكنّهُ عبثاً فعل. تحسَّرَ طويلا عليها ثمَّ سلَّم بالأمر ونسيَها ولم يأتِ على ذكرها فيما بعد.
عندما أقبلَ الخريفُ في العامِ التالي، موعدُ العملِ في فلاحةِ الأرضِ ورشِّها بالبذور، وجدَ "ضالَّتهُ" مدفونةً في ترابِ الحقل. نفضَ عنها التراب بعدَ عامٍ كاملٍ من نومِها وسطَ الطّينِ والأمطار، وَرَكَمَ نابضَها مِنْ جديد فإذا مؤشرُ الثواني ينطلقُ في حركةٍ منتظمةٍ رتيبة.. مع ذلك وحرصاً منهُ عليها، فقد أرسلها إلى آلَوِيٍ في صِيانة الساعاتِ وتصليحِها من طائفةِ الأرمن في "زحلة" المدينة ُالأقرب. فقامَ بفحصِها وتنظيفِها وأعادَها إليه ليرويَ حكايتَها لاحقاً ويتحدثَ عن دِقّةَ صُنْعِها لعشراتِ الناس، وترافقهُ في كثيرٍ من سنواتِ عمرِه.
أشكرُ الله صادقاً أنَّ أبي قد مات؛ واستراح..! أدركَ صناعة الساعاتِ والجرَّاراتِ الزراعيَّة وحَسْرَتَه على البرّاك؛ واكتفى. فلم يدركْ مَدَنِيَّة الأبوابِ المُوْصَدَة خوفَ السَّرقات.. والأصوات الخافتة والكلامِ المعسول المنمّقِ يتفذلكُ في الخِطاب، ولا أدركَ تبريدَ مكيّفاتِ الكهرباءِ والأنترنت والهواتفِ الذكيّة المحمولة.. تنقلُ الصّوتَ والصّورة الملوَّنة بلا أسلاكٍ إلى أربعِ رياحِ الأرض. حقّاً- وحمداً لله أنَّه قد ماتَ وكفى نفسَه "شرَّ" العيشِ في هذا الزّمن..! ولو أنّه لم يرحلْ خاليَ الوفاض فحَمَلَ معهُ إلى العالمِ الآخر، ما سمعَه ولم يرَه عن القنابلِ النوويَّة على هيروشيما ونكازاكي، ومفعولِها المدمِّر الرهيب في هلاكِ بني البشر.
 هذه المَدَنِيَّة الحديثة الطاغية تواطأتْ مع غربةٍ تنكَّرتْ لنفسِها وقتلتْ في القلبِ الحنين؛ والذكريات فقدتْ أهميتها. فماتَ نعيمة وجبران وخليل مطران. ومات أيضا فؤاد سليمان والريحاني وعبد المسيح حداد ونسيب عريضة ورشيد أيوب وبشارة الخوري. وقضى كلٌّ من فوزي وميشال وشفيق وقيصر من آل معلوف. ثم رَحَلَ جوزيف حرب وسعيد عقل والأخوان رحباني وميشال طراد وأنسي الحاج وجورج جرداق وغيرهم.. ثلةٌ من الشعراءِ والأدباءِ العباقرة.. ماتَ الجميع وماتَ أيضا إيليا أبو ماضي، وشِعْرُهُ باتَ خاوياً من المعاني الجميلة التي لا تستقطبُ اهتمامَ الكثيرين في عالمِ اليوم.
*وَطَنَ النُّجومِ... أنا هُنا حدِّقْ... أتَذْكُرُ مَنْ أنا..؟
أنا مِنْ مِياهكَ قطرةٌ فاضَتْ جداولَ مِنْ سنا
أنا مِنْ طُيورِكَ بُلْبُلٌ غَنَّى بمجدِكَ فاغتنى
حَمَلَ الطلاقة والبشاشة مِنْ ربوعِكَ للدُّنى
فالمرءُ قدْ يَنْسى المسيءَ المُفْتري ، والمُحْسِنا
لكنهُ مهما سلا هيهاتِ يَسْلو المَوْطِنا
أمّا أبي من "أسرةِ المحراث" فلم يَذقْ طيلةَ عمرِه طعمَ المشروباتِ الغازيّة، ولا الماكولاتِ المعلّبة. لم تكنْ لهُ عائلةٌ أو عشيرةٌ يستجيرُ بها أو يلوذ بسلطانِها ليكسبَ احترامَ الآخرين. بل بآدميتِه كان ينتزعُ احترامَ الناسِ في البلدة والمحيط. لم يرَ سراويلَ "الجينز" ولا "التنانير" القصيرة تفضحُ عُريَ النساء. كانتْ عيناه حادتين كعيونِ الطيورِ الجارحة وكان يُغضي حياءً من خجلٍ يستوطنُ في عمقِ عينيه.. عفيفَ النّفسِ خجولاً ومُحْرَجا إذا طالعَتْه عيونُ النساء. لم يعرفِ امرأةً في حياتِه إلاّ زوجتَهُ وحسب. تجاوزتُ عمرَه حينما كان يعملُ فلاّحاً في الأرض.. ولكنني لا زلتُ مهزوماً عاجزاً أمامَ آفةِ التدخين، ومتسولاً حقيراً أمامَ رغبتي في النّساء.   
في سنواتِهِ الاخيرة توقّفَ عن نُصحِنا والتّدخلِ في أُمورِنا، وحينما انطفأَ النورُ في عينيهَ..؟ ازدادَ نورُ اللهِ في قلبِه فصارَ كالنسَّاج الأعمى؛ يتلمَّسُ ملامحَ أحفادِه بيديه، يفتشُ عن قسماتِهم بأناملِهِ ينقلها برفقٍ من الذّقنِ الى الفمِ والأنفِ والأذنين. يتوقَّفُ عندَ العينينِ وينتهي بملاطفةٍ طويلةٍ على الشّعر والوجنتين. ثم عَزلَ نفسَهُ وانقطعَ عن الناسِ لسنواتٍ عديدة. وفي لحظاتِ احتضارِه الأخيرة كانَ واعيا مدْركاً تماما لما كان يجري حولَهُ.
ليته كانَ قادراً وأنا إلى جانبِه وروحُه تفاوضُ جسدَه قبلَ الطّلوع..؟ أن يكشفَ ليَ سرّ الموتِ الأعظمِ وتلكَ اللحظاتِ الرهيبةِ الحاسمة..؟ لو فعل..؟ لوفَّرَ عليّ الكثير من الشكِّ وضعفِ اليقين، وربّما حرَّرتُ نفسي من ثقلِ ما أعانيه من التخبّطِ في معتقداتي وإيمانيَ المهزوز، فثبتُ إلى رُشدي وآمنتُ بربّي ثم تُبْتُ إليه واستغفرتُه عن تقصيري من سائرِ الآثامِ والذّنوب.. أوِ استهَنْتُ وتماديتُ في استهتاري وضَلالي حتى بلوغي مملكة الجحيم..؟
 لقد قتلتْني الشكوكُ وأتعبَني الانتظارُ وليالي التِّيه الطويل. أعياني الهمُّ في محطتي الأخيرة يا أبي حيث النزاعُ على الماءِ لم يعدْ يُجدي، وليسَ ما يستوجبُ الصبرَ على العطشِ والجوع، ولا الخلافُ بالأيدي على الدَّورِ كما كان يحدثُ مع النسوةِ أمامَ الحاووز. أجالدُ كثيراً لكي أعيشَ مزيداً من الوقتِ يا أبي- يُعَدُّ بالأيامِ والليالي فلا يتعدّى الأشهرَ ولن يبلغَ الأعوام. فانتظرني يا أبي أنا قادمٌ في الطريق إليك لأخبرَكَ ماذا فعلتُ في دنيايَ وماذا تعلّمَت..؟ قلْ لأمِّي أن تَبْرَأ من البكاءِ على الحسين، وأن تتمسكَ بموتِها لكي لا تعودَ إلينا تواكبُ العاشرَ من محرَّم في كلِّ عام، لتبكيَ مرةً أخرى مأساةَ مدينةِ الأحزان، فمأساةُ كربلاءَ الحسين تتكرَّرُ في كلِّ حين على اتّساعِ أرضِ العروبةِ والإسلام.
 ربَّما في العالَمِ الآخر لا قيمةَ لعاملِ الزّمن، ولا حاجةَ بنا للساعةِ التي أضعتَها في الحقلِ يا أبي..؟ لكن؛ هل هنالك ياترى أراضٍ وأبقار للفلاحةِ والزراعةِ كما في الحياة على الأرض، وهل عندكم طائرات تعلمتُ صيانتَها جيداً لأجدَ لي عملاً هناك..؟ أم إنهم سبقونا كثيراً باستخدامِ الجرّاراتِ الزراعيةِ وأنواعِ "المبيدات" التي استخدمناها بإفراطٍ على الأرض. لا شكَّ أنّكم سبقتمونا في كلِّ شيء.. في صناعةِ السّاعاتِ والطائراتِ والسفرِ عبرَ الزَّمن، إلى المتاهاتِ المُظلمةِ أو المناراتِ المضيئةِ على اتّساعِ هذا الكون..؟ ولم ينلني من الدُّنيا يا أبي (10)"إلاّ الندامةَ والأسى واليأس والدمع الغزيرْ.. هذا حصادي كلّه في يقظةِ العمرِ الأخيرْ".
حواشي:
(1) "ألبيلسانة": شجرة مهدها الأصلي،أُوروبا وآسيا الشماليَّة، زهرُها أبيض وعريض، لعلّها من فصيلة "البخوريات"..؟
(2) "ألحواكير": مفردها حاكورة، قطعة أرض في جوار المنازل والدور؛ مخصَّصَة لزراعة الأشجار والبقول.
(3) "مساكب": مفردُها مَسْكَبَة (عاميَّة)، مكانٌ تُبْذرُ فيه الحبوبُ ويُعْتنى بها، منها ما يبقى في موضعه، ومنها ما يُنْقل ويُزرع في مكانٍ آخر.
 (4) " ألحاووز": خزان من الإسمنت المسلح، تتجمع فيه مياه الشرب من الينابيع المجاورة.. هو (العين)
(5) رَوْث: سِرْجْين البقر(ونفايات) كل ذي حافر.
(6) "بنو معروف": أبناء الطائفة الدرزية.
(7) حوران: هو جبلُ (الريَّان) من العهد الإسلامي، مروراً بالعهد الأُموي وحتى أواخر العهد العباسي. تغنَّى به جرير الشاعر الأُموي فقال:
يا حبَّذا جبلُ الريَّانِ مِنْ جَبَلٍ           وحبَّذا ساكنُ الرّيَّانِ مَنْ كانا
حَيِّ المنازلَ إذْ لا نبتغي بَدَلاً          بالدَّارِ داراً ولا الجيران جيرانا
(8) يوسف العظمة: من عائلة دمشقيَّة عريقة. حاربَ الفرنسيين في معركة ميسلون، معركة غير متكافئة: ثلاثة آلآف من المجاهدين بأسلحة قديمة، مقابل تسعة آلآف جندي نظامي، مسلحين بالدبابات  والمصفحات والطائرات. استشهد يوسف العظمة مع بضعة مئآتٍ من المجاهدين.
(9) أدهم خنجر: ثائر ومقاوم من لبنان الجنوبي، أطلق النار على الجنرال "غورو"؛ فاستقرت الرصاصات في ذراعه الاصطناعيَّة، وتسبَّبتْ في نجاته. لجأ إلى منزل سلطان باشا الأطرش للحماية، فاعتقلهُ الفرنسيون في غياب صاحب الدار. ثم أُعدِمَ لاحقاً في بيروت. وعندما عادَ سلطان باشا الأطرش من سفره وعلم بواقعة اعتقال أدهم خنجر من بيتهِ وإعدامه، أقدم على  إشعال النار في المنزل لأنَّهُ على ما قال، لم يحمِ مستجيراً.. الأمر الذي ساهم كثيراً في اندلاعِ الثورة ضد الفرنسيين.
(10) من قصيدة الجنة الضائعة لأبي القاسم الشابي.
*وطن النجوم أنا هنا..
https://www.youtube.com/watch?v=0AdmSafgS2Y
 إبراهيم يوسف_من لبنان
                                                                                                                                               






عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا