من منا يمتلك الحقيقة؟
الحقيقة من الأمور الفلسفية الأكثر غموضا وجدلية،
وأحد الإشكالات الكبرى في مجال نظرية المعرفة. فقد يراد بها الصدق في تعارضه مع الكذب
وقد يراد بها الحق في
تعارضه مع الزّيف، كما تدل على الواقع في تعارضه مع الوهم وعلى
العلم في تعارضه مع الخرافة. ويكمن الإشكال في نوع المعرفة التي ترتبط بها ومصدرها
كذلك. فالمعرفة العلمية مثلا تستمد حقيقتها من العقل باعتماد التجربة والملاحظة، أما
المعرفة الدينية فتعتمد في حقيقتها على الإيمان. ويبقى القاسم المشترك بين كل أنواع
المعرفة نسبيتها في المكان والزمان.
وتتجلى هذه النسبية خصوصا في مسائل غير محسوسة مرتبطة
أساسا بإدراك الكون اللامتناهي وكذلك بإدراك وجودنا الشخصي فيه، ومحاولتنا لفهم الأمور
الواقعة خارج مجال إدراكنا الحسي. وهذه أمور يصعب معها الوصول إلى حقيقة مطلقة. فأي
معرفة مرتبطة بها تقع إما في خانة النظريات أو في خانة المسلمات.لذلك وجدت بديهيا أن
نتساءل: من منا يمتلك الحقيقة؟ ماذا ترانا نعرف عن الوجود وعن بدء الخليقة؟ ماذا نعرف
عن القيامة؟ عن الساعة وعن العلامة؟ لماذانعتقد أنها تعني النهاية؟ لماذا لا تكون هي
البداية؟ لماذا لا تكون مجرد نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة؟ هو مجرد سؤال،فمن منا يمتلك
الحقيقة؟!من منا يعرف ماهي الروح؟ ومن منا يعرف كيف هي الحياة بعد الموت؟ من يعرف بالضبط
ماذا يوجد خلف ذلك الجدار؟ ومن تراه يدخل الجنة إن وجدت حقا ومن سيدخل النار؟ من هم
المؤمنون في هذا العصر ومن هم الكفار؟ من هي خير أمة ومن هو شعب الله المختار؟فمن نسميهم
بالملحدين اليوم لا يعبدون الأصنام ولا يُقرُّون حتى بمبدأ العبادة. ومن يقولون بأنهم
مؤمنون عابدون يختلفون فيما بينهم ويتقاتلون حول اسم المعبود وكيف يجب أن تكون العبادة.
فمن منا يمتلك الحقيقة لكي يفرضها على الآخرين ومن منا أصلا يتحرى الحقيقة؟
الحقيقة هدف نصبو إليه ونبذل جهدا عقليا وحسيا لامتلاكه،
وهذا يتطلب بحثا مضنيا وشغفا داخليا ونية صادقة في تحرينا للحقيقة. فهناك فرق بين المعرفة
المتعارف عليها والمعرفة التي يكونها الفرد بنفسه من خلال بحثه وتحرّيه وتفكيره وتحليله
وكذلك ميوله وإحساسه. وسواء كانت المعرفة التي لدينا فطرية أو مجتمعية، أو كانت معرفة
ذاتية مكتسبة فهي معرفة نسبية طالما هي مرتبطة بأمور غير حسية. لذلك فاعتبارها حقيقة
مطلقة قد يؤدي إلى التعصب في كلتا الحالتين. الفرق هو أن المعرفة المكتسبة من خلال
تحري الحقيقة تهب صاحبها وضوحا في الرؤية وعمقا في الفهم خصوصا حين يتعلق الأمر بالمسائل
الوجودية، حتى وإن كانت معرفته مخالفة لكل ما هو متعارف عليه. هذا الوضوح في الرؤية
يساهم في جعل المرء يحيا حياة متزنة متسقة وهادفة وتجعله يتصف بالشغف والتفاني والتضحية.
فتحري الحقيقة هو الذي قاد الحواريين إلى الإيمان
بالسيد المسيح في الوقت الذي أعرض عنه اليهود ولم تعترف به الروم. تحري الحقيقة هو
الذي هدى الصحابة الأجلاء إلى النور المحمدي بعد أن كذَّبه قومه وقالوا هل نترك ما
كان يعبد آباؤنا الأولون. تحري الحقيقة هو الذي جعل ابن رشد يقضي سنواته الأخيرة في
السجون وتُنعت أفكاره بالكفر والجنون.تحري الحقيقة هو الذي جعل جاليليو يتحدى الكنيسة
ليثبت للعالم أن الأرض هي التي تدور، وأن الدين والعلم يجب أن يتفقا في كل الأمور.
هؤلاء وغيرهم رسموا تاريخ الإنسانية جمعاء لا لشيء سوى أنهم قرروا تحري الحقيقة. فهل
نحن اليوم نتحرى الحقيقة؟
نحن اليوم لم نعد نتحرى الحقيقة لأننا صرنا نعتقد
أننا نمتلك الحقيقة. لكل دين تصوره للوجود والموت والحياة بعد الموت.فأي تصور يا ترى
يملك الرؤية الصحيحة؟ ألا يعد هذا التصورمجرد تفسير لما نطق به مؤسسو هذه الأديان،
بما يحمله كلامهم من مجاز وضرب للأمثال؟ وبدون الإيمان فإن هذا كله سيصبح من صنع الخيال؟
وحتى أهل العلم في كل مرة يأتونا بنظرية جديدة عن نشأة الكون وظهور الحياة على الأرض.
وفي كل مرة يقدمون اكتشافهم على أنه حقيقة لا تقبل الرفض.كيف نفسر إذن أن العالم بأسره
يؤمن بقانون النسبية ومع ذلك كل فئة تتمسك برأيها ورؤيتها على أنها الحقيقة المطلقة؟
كيف نفسر هذا التعصب القائم على أفكار نسبية ومعتقدات غيبية؟ كيف نفسر كل هذه الحروب
الدينية والطائفية؟ هل عمت بصائرنا أم اختلت الموازين في الإنسانية؟
لو نظرنا إلى عالمنا اليوم سنجد أن هناك من يعتقد
بأنه الوحيد الذي يعرف الله حق المعرفة فدينه هو الأكثر انتشارا وقبولا، وسنجد من يقول
بأن دينه سماوي أما الأديان الأخرى فهي وضعية من صنع الإنسان، وآخر في الجهة المقابلة
لا زال متمسكا بمعتقدات قديمة ولا يهمه ما وصل إلى علمه من حديث عن الروح القدس والأديان
السماوية.كل هؤلاء يعتقدون أن معرفتهم هي الحقيقة ولا يحتاجون إلى إثبات علمي أو بحث
مضني. فقد نشأوا على فكرة الإيمان بالشيء والتسليم به حتى أصبح قناعة معرفية لا يجوز
المساس بها بأي شكل من الأشكال.
في النهاية نحن بحاجة إلى الإيمان ما دام عقلنا
قاصرا عن إدراك الغيب المنيع. فسواء آمنا بالعلم ونظرياته أو بالدين ومسلماته أو بهما
معا، فما يهمنا هو الهدف من وراء إيماننا. المهم هو أن يجعلنا إيماننا ندرك طبيعتنا
البشرية المحدودة وهويتنا الإنسانية الموحِّدة ومصلحتنا المشتركة في عالم نتقاسم أرضه
وسماءه. وعلينا الاعتراف بأن عالمنا اليوم يختلف تماما عما ألفته البشرية في سالف الأزمنةوالعصور.
عالمنا اليوم أصبح يتكون من دول وليس من حضارات وأمم. عالمنا أصبح مترابطا وكأنه قرية
صغيرة ينتقل فيه الخبر في لمح البصر. عالمنا سكانه يتنقلون ويندمجون ولم نعد نميز فيه
قوما ولا قبيلة. عالمنا كاد يصبح كالوطن الواحد لولا هذه التعصبات الثقيلة. فلا شيء
يؤخرنا عن تحقيق الوحدة والسلام العالمي سوى تعصبنا وفهمنا الخاطئ للدين والعلم على
حد سواء. فكلنا نسعى وراء الحقيقة نفسها، لكن بما أنها أكبر من مجال رؤيتنا كل واحد
منا يراها من زاوية مختلفة. لذلك نحن بحاجة إلى كل الرؤى الموجودة لتكتمل الصورة وتتحقق
الوحدة في الاختلاف وينير نيّر الاتفاق في الآفاق ... هذه هي الحقيقة التي علينا امتلاكها.
د. محمد منصوري