ما نزال لا نميز بين الجنس والنوع، رغم أن العرب القدامي ميزوا بينهما، إذ اعتبروا الجنس أعم من النوع، وأجروا تحت الأنواع تقسيمات فرعية أخرى، مثل الصنف والضرب.
يبدو عدم التمييز في كوننا نتحدث عن الرواية باعتبارها جنسا، فيقول أحدهم الجنس الروائي، بل يذهب أيضا إلى أن الرواية البوليسية، مثلا، جنس روائي أو أدبي، لكن الأمر لا يعدو كون الرواية نوعا من السرد الذي هو اسم للجنس لتضمنه أنواعا سردية متعددة، بعضها اندثر، وبعضها الآخر ما يزال مستمرا، وآخر يتولد كلما توفرت شروط جديدة.فالقصة القصيرة والمقامة والأسطورة والرواية أنواع سردية، يختلف بعضها عن بعض من حيث الطبيعة والوظيفة. لكن ما يجمعها هو المكونات السردية التي بدونها يستحيل الحديث عن البعد السردي.
لكن أي نوع عندما يتطور، مثل الرواية، يصبح قابلا للتمفصل إلى أنواع فرعية تندرج تحته، فنقول الرواية الواقعية والتاريخية ورواية الخيال العلمي والرواية الرقمية. إن عدم إيلاء الأهمية للتمييز بين الأجناس والأنواع وما يتفرع منها أدى، لدى الدارسين إلى تغييب التفكير في نظرية الأجناس والأنواع والبحث فيها، من جهة. كما أنه أدى إلى غياب التفكير في الكتابة ضمن قواعد النوع لدى الروائيين، من جهة ثانية. وكان من نتائج هذا التغييب أن زالت المواثيق الروائية بين الكاتب والقارئ، فصار المتلقي يتعامل مع الرواية بغض النظر عن أي تحديد نوعي، فكانت المتاهة، من جهة ثالثة.
إن غياب النظرية، وعدم الخضوع للقواعد، وتغييب الميثاق الروائي، كل ذلك ساهم بدور كبير جدا في تحول الرواية إلى عالم غير محدد ومضبب وغير دقيق. لقد زالت الحدود بين الأنواع الروائية، وصار كل كاتب يكتب، كما يشتهي، معتبرا أي عمل سردي، رواية. وتملص الناقد من وجع البحث وحرقته، فتساوت لديه الروايات، فكل شيء رواية، بغض النظر عما يمكن أن يجعلها تندرج في أحد الأنواع الروائية. فالروائي، مثلا، يكتب رواية تاريخية، ويتملص من اعتبارها تاريخية لأن وهما تكوّن يقضي بكون هذه الصفة النوعية تنقيصا من طبيعة العمل؟ ويمكن قول الشيء نفسه عن الكتابة ضمن أنواع أخرى.
فما الذي جعل الرواية التاريخية مثلا نوعا مبتذلا أو ناقصا؟ إن الوعي الذي تشكل في الخمسينيات والذي بدأ يعتبر نموذج الرواية التاريخية مختزلا في الروايات الأولى التي كتبها جورجي زيدان وأمثاله، هو المسؤول عن سيادة هذه الفكرة، ولذلك تم إقصاء البعد التاريخي للرواية في وعي الكتاب في حين أن أي نوع يتطور ويتغير مع الزمن. لقد كتب جورجي زيدان رواية تاريخية في بدايات تشكل الرواية العربية. لكن الغيطاني عندما كتب «الزيني بركات»، كان يطور الرواية التاريخية لأنه كتبها في ظروف أخرى عرفت فيها الرواية العربية تحولات كبرى. ويمكن تعميم هذا على كل من سار على النهج نفسه في الانطلاق من مواد تاريخية، واقعية أو تخييلية، وعمل على صياغتها بكيفية مختلفة عن الروايات التاريخية الأولى.
بهذا التصور يمكننا تأكيد أن الأنواع تتطور، ويصبح لكل منها تاريخه الخاص وهذا موضوع للبحث والتأمل. لكن الحكم على الأنواع الروائية من لدن الوعي النقدي والإبداعي الذي ساد، كانت وراءه أفكار حول نظرية الأجناس الأدبية، مفادها أن الحدود بين الأجناس والأنواع شبه مستحيلة، وأنه لا يمكن الحديث عن نوع صاف. فسادت فكرة النص الذي اعتبر بديلا عن «النوع»، فصار الروائي يكتب الرواية، وليست في ذهنه أي صورة عن النوع الروائي الذي يكتب فيه، فعمد في روايته إلى جعلها «كشكولا» تتجاور فيه الأنواع الروائية: فيبدأ بكتابة رواية واقعية، ثم ينصرف عنها إلى البعد التاريخي، أو العجائبي أو البوليسي، وأحيانا من دون أن تكون هناك مسوغات موضوعية أو فنية تقتضي ذلك، غير الانطلاق من هشاشة نظرية الأنواع، واستحالة إقامة الحدود بينها.
كان من آثار سيادة هذه الرؤية حول نوعية الرواية أن اعتبرت نوعا تتداخل فيه الأنواع السردية، وتدخل فيه أجناس من الشعر والحديث، مثل الرسالة، ويمكن للروائي أن يوظف ما شاء من الخطابات ما دامت الرواية ملتقى لكل الأجناس والأنواع. ومن هنا سادت فكرة شمولية الرواية وتعاليها على أن تخضع لقواعد نوع محدد، حتى إن كانت الهيمنة فيها لأحدها على غيره من الأنواع.
لا نختلف في أن الحدود ليست قاطعة، ونحن نتحدث عن الأنواع الروائية، لكن مع ذلك يمكننا تحديد نوعية الرواية من خلال البعد المهيمن فيها. ولا بأس في هذه الحالة من استيعاب الرواية لأنواع وخطابات متعددة داخلها شريطة الحفاظ على خصوصية النوع المهيمن، وبذلك يمكن للروائي أن يقول إنه يكتب رواية محددة، تاريخية مثلا، ولكنه يجعلها مفتوحة على غيرها من الأنواع التي تتضمنها. ويسمح هذا للقارئ أن يقول إني سأذهب لاقتناء رواية تاريخية، وللكتبي أن يصنف روايات مكتبته حسب أنواعها، وللناقد أن يقول سأكتب عن الرواية التاريخية. في تغييب نوعية الرواية، سنعتبر كل ما يكتب رواية، وبذلك تزول الحدود والقواعد والمواثيق، وتسود الفوضى.
٭ كاتب مغربي