«ما من طريق واحد يفضي إلى الشعر، بل ألف
طريق» يقول رفعت سلام، الشاعر الذي تفرّد في نهج شعري كاسرٍ لمفهوم الأحادية ومنفتح
على آفاق شعرية متعددة، فكان
منجزه الشعري الممتدّ عبر أربعة قرون من الزمن تشكيلا
لغوياً وجمالياً آسراً، بمسؤوليةٍ يمتطي الحرية مِداداً يسمح للخيال بالانفتاح على
ما لا عينٌ من قبل رأت، أو أذن سمعت، أو خطر على قلب بشر، حسب تعبيره.
تَوقُ رفعت سلام للمعرفة الشعرية دفعه نهاية سبعينيات
القرن الماضي لترجمة أشعار بوشكين وليرمونتوف للتعرف على تجربتيهما، وهنا كانت نقطة
البدء لرحلة الترجمة التي كان لسلام معها ضفة خصبة أيضاً، فترجم «الأعمال الشعرية الكاملة»
لأربعة من مؤسسي الحداثة الشعرية في العالم: كفافيس، بودلير، رامبو، ووالت ويتمان.
حول الشعر والترجمة ومشروع المائة كتاب يتحدث رفعت سلام لـ «السفير» في الحوار التالي:
تجمع في «ديوان رفعت سلام» أعمالك الشعرية منذ ثمانينيات
القرن الماضي حتى 2012، أكثر ما يُميزه أنه يبدو خارج أي تصنيف «موسيقي»، سواء تفعيلة
أو نثر؛ هل بهدف كسر أحادية النص الشعري، أم هو التوق إلى حرية تفتح الخيال على عتبات
شعرية أكثر عمقًا وبُعدًا؟
لا تناقض بين الأمرين. فالنص الشعري العربي يعاني
من «الأحادية» منذ «قفا نبكِ..» إلى الآن، وإن بأشكالٍ متباينة. فـ «الأنا» الشعرية
هي الصوت الوحيد فيه، بلا مساحة لأصوات أخرى، مغايرة. والبنيّة مسطَّحَة، بلا تعددية
في التضاريس؛ فيما يهيمن الإيقاع الواحد على النص منذ بدايته إلى نهايته (ألهذا، لم
تعرف الموسيقى العربية الشكل السيمفوني؟).
وبدت لي الثنائية «تفعيلة/ نثر» باطلة، شأن جميع
الثنائيات في ثقافتنا العربية، بعد انتهائي من «إشراقات رفعت سلام» (أواخر الثمانينيات)،
التي طرحت عليَّ الكثير من الأسئلة. وقلتُ لنفسي: لستَ مُضطرًّا للاختيار بين حدَّي
الثنائية المفروضة من خارجي، من خارج النص، فيما بدت لي نمطية الكتابة الموحدة على
الصفحة تقليدًا غابرًا تنبغي مساءلته، وعدم الركون إليه، أو اعتباره مرجعًا واجب الاحترام.
فحرية التعبير ـ بالنسبة للشاعر، أو المبدع عامةً
ـ لا تتجزأ، فهي لا تنصرف فحسب إلى الموقف من «التابوهات» المعروفة، بل ـ الأعمق ـ
إنها تنصرف إلى الموقف من تقاليد الكتابة المهيمنة، أحادية الصوت الشعري، أحادية النمط
الكتابي على الصفحة، قصر الصفحة على المكوِّن اللغوي الأبجدي (بلا حضور لأي مكون تشكيلي،
على سبيل المثال)، إلخ.
فحرية الشاعر مطلقة، وعليه ألا يتهرب منها ومن مسؤولياتها.
وهي التي تسمح للخيال بالانفتاح على ما لا عينٌ من قبل رأت، أو أذن سمعت، أو خطر على
قلب بشر.
الرقابة السلطوية
ثمة أعمال شعرية لك لم تخرج للنور بسلام، بعضها
تعطل لفترة، وبعضها قوبل بالمعارضة.. هل هذه ضريبة الانعتاق من أي خطوط حمراء وأسلاك
شائكة، حسب تعبيرك؟
نعم، هناك أكثر من عمل تصدى له عمال المطبعة بهيئة
الكتاب، في التسعينيات، بكتابة تقارير إلى رئيس الهيئة تفيد بخروج العمل عن «الثوابت
الدينية والأخلاقية»، ما كان يؤدي إلى تعطيل الصدور، أحيانًا لعام كامل. وهناك «إشراقات
رفعت سلام» الذي تعرض ـ في التسعينيات ـ لتحريض سافر من جريدة «الشعب»، في أعقاب مصادرة
رواية «وليمة لأعشاب البحر».
فالمبدع لا يواجه الرقابة الرسمية السلطوية فحسب،
بل يواجه أيضًا رقابة هلامية، غير منظورة، من نوع «شعبي»، تبدأ من عمال المطبعة.. ممتدة
إلى مَن يمنحون أنفسهم سلطات «المحتسبين» القديمة، سواء عن إخلاص وهمي، أو بحثًا عن
شهرة. والمشكلة تكمن في أن أجهزة الدولة أحيانًا ما تستجيب لهؤلاء، لأسباب سياسية ظرفية.
قدمتَ ترجمة لشعراء من العالم ومن لغات عدة، كم
تلقي ترجمة الشعر مسؤولية على عاتق المترجم خاصة أنّ عليه نقل الحالة الشعرية بما فيها
من صور مجازية وسياق ثقافي وعاطفي؟
هي مسؤولية باهظة، وفريدة، لمن يدرك معناها. فعليَّ
ـ في حال الترجمة ـ أن أوظِّف كل طاقاتي «الشعرية» والثقافية الشخصية، بمنتهَى الإخلاص،
لمصلحة نصٍّ آخر، شاعر آخر، دون فرض أية سمات ذاتية على النص المترجَم، ودون خلط بين
الخصائص الشعرية لنصِّي ـ حين أكتب ـ ونظيرتها الخاصة بالشاعر الأجنبي. وهو فصلٌ صارم
صعب، لكنه ضروري للغاية، حتى لا تختلط السياقات واللغات بيني وبين الشاعر الآخر.
وذلك ما يعني بذل جهد سابق على فعل الترجمة، لقراءة
متعمقة لملابسات إنتاج النص الأجنبي، ضمن محيطه التاريخي والثقافي والإبداعي الخاص،
لرصد السمات الأسلوبية واللغوية والروحية الخاصة بالنص أو بالشاعر.
نعم، هي مسؤولية باهظة، لأن النص الشعري (الأجنبي،
في هذه الحالة) ليس مجرد صياغة لغوية ومفردات متراصة متجاورة، بل يكتنز طبقات وظلالاً
متداخلة من الدلالة والشعور والوعي. ولاقتناصها، أو اقتناص أغلبها، على الأقل، يحتاج
الأمر ما هو أكثر بكثير من «الترجمة» بمعناها المألوف. وإلا لبدت النتيجة، كما نرى
في كثير من الحالات المنشورة، هنا وهناك، تراصًّا لمفردات متجاورة، بلا سياق، كأحجار
يتعثر فيها المرء في الطريق.
ترجمتَ الأعمال الكاملة لرامبو وكفافيس وبودلير.
قبل ذلك بدأت مع شعراء روس كبوشكين وليرمنتوف.. هل تترك الترجمة ظلالها على قصيدة رفعت
سلام، أم أنك قابضٌ على رؤيتك الشعرية الخاصة وسياقك الذي لا يشبه غيره؟
بدأت الترجمة متأخرًا عن بدايتي الشعرية. بل كانت
شهوة المعرفة الشعرية هي الحافز الأول على دخولي إلى الترجمة، في النصف الثاني من السبعينيات.
كانت تصوراتي الأولية، في ما يتعلق بماهية الشعر، والشاعر، وطموحي الذاتي، قد تشكلا
إلى حدٍّ كبير، وهما ما دفعاني، مع أصدقاء شعراء، إلى تأسيس مجلة «إضاءة-77»، كمنبر
مستقل لجيل جديد من الشعراء.
والترجمة الأولى لأعمال بوشكين لم تكن من قبيل الإعجاب
بتجربته الشعرية، بل من قبيل التعرف عليها، شأنها شأن ترجمتي لليرمونتوف.
لكن ترجمة هؤلاء المؤسسين الكبار، المتمايزين، رسَّخت
لديَّ بعض توجهاتي الأوليَّة، المتعلقة بـ «تعددية» الآفاق والتوجهات الشعرية، وكسر
مبدأ «الأحادية» (فلنتذكر أن ذلك كان مهمًّا للغاية لدينا في السبعينيات، ونحن نواجه
كتيبة النقاد والشعراء التقليديين، الذي يحاولون فرض نمط سابق، جاهز، مُسبق التعليب).
فما من طريق واحد يفضي إلى الشعر، بل ألف طريق.
وحين كنتُ أترجم ماياكوفسكي (الأصلي، لا الذي قدمه
لنا يساريُّو الخمسينيات)، وجدته يمزج اللغة العادية (إلى حدِّ السباب) بلغة فانتازية،
خارقة، في نصوص شعرية باذخة كـ «غيمة في بنطلون»؛ فترسخت لديَّ فكرة كانت تتبلور آنذاك
في ذهني: ان العبرة بالسياق الشعري الذي يؤسسه الشاعر، لا بالجملة المفردة إذ كنا قد
تجاوزنا آنذاك الفكرة الرومانتيكية السائدة بوجود لغة «شعرية» في ذاتها.
فاستفادتي من الترجمة الشعرية، حسب وعيي الذاتي،
ليست مباشرة، ولا تبدو لي واضحة في نصوصي، بل في ما يؤسس هذه النصوص. وربما كان الأوضح
هو استفادة الترجمة من إمكانياتي الشعرية.
أفضل مئة عمل
«مشروع المائة كتاب» يقوم على ترجمة أفضل
مئة عمل أدبي في العالم إلى العربية، بعضها قد ترجم مسبقًا، وبعضها جديد. أين وصل المشروع،
كونك مؤسس الفكرة ورئيس تحرير المشروع؟
في عام 2012، طُلب مني الإشراف على سلسلة «آفاق
عالمية»، المتخصصة في الأعمال المترجمة. كانت فترة بالغة الارتباك والتشويش في ما بعد
ثورة يناير. لكني وافقتُ على أساس أنني إذا ما نجحتُ في إصدار 20 أو 30 عملاً جيدًا،
فسيكون مكسبًا ما، لا بأس به. وفكرت في مشروع «المائة كتاب»، ليصدر ضمن السلسلة، لمصلحة
الأجيال الشابة التي لم تطلع على ما صدر من ترجمات لأمهات الإبداع العالمي في الخمسينيات
إلى السبعينيات، واستكمال «البنية الأساسية» للإبداع العالمي في المكتبة المصرية والعربية،
بترجمات كاملة، موثوقة. وخلال الإعداد للمشروع، اكتشفتُ أن نحو ثلاثين في المائة فقط
من قائمة الأعمال المختارة قد تُرجم من قبل. لكنها ترجمات متفاوتة المستوى ـ بعضها
يمثل تشويهًا للعمل الأصلي ـ وفي جميع الأحوال، فهي غير متاحة للقارئ المصري.
والآن، وصلنا إلى العدد 30، ولديَّ نحو 10 مخطوطات
تحت المراجعة، ولدينا نحو 10 مترجمين يعملون حاليًّا على ترجمة 10 أعمال أخرى.
لكن عجلة النشر لا تسير بانتظام، ففي العامين الأخيرين،
توقف النشر لما يقارب العشرة شهور، لأسباب مختلفة، فعرقل مسيرة السلسلة، وراكم المترجمات
عندي لأعمال كبرى حقًّا، ومؤسسة في التاريخ الأدبي العالمي.
إلى أي مدى يمكن لمشروع المائة أن يردم الهوة المعرفية
بين القارئ العربي والثقافات الأخرى غير العربية، خاصة أن هذه الترجمة محددة بضوابط
وشروط أهمها مراعاة السمات الأسلوبية والجمالية للنصوص المترجمة؟
لستُ حالمًا إلى هذا الحد، ولا أبالغ في قيمة السلسلة،
فهي، في النهاية، إن صدرت منتظمة، تقدم اثنَي عشر عملاً في العام، لا أكثر، في طبعة
من ألفَي نسخة. فقد كان تصوري البسيط هو تقديم «البنية الأساسية» الإبداعية لمثقفينا
وأدبائنا، وخاصةً الأجيال الجديدة، من خلال اختيار أهم مئة عمل إبداعي في التاريخ من
الثقافات المختلفة، خاصةً أن السلسلة تصدر في طبعة شعبية، رخيصة السعر. ومع العدد الأول
(دون كيخوته) طالبت بطباعة 5 آلاف نسخة (كنت أعرف مدى الإقبال المتوقع)، واختفى العدد
بسرعة خارقة.
فإذا كنت أبذل الجهد الأقصى ليصدر العمل في أفضل
مستوى في الترجمة، مشددًا على ما يتجاهله المترجمون العرب عادةً (والمصريون في الصدارة):
السمات الأسلوبية والجمالية الخاصة بكل نص، فإنهم، في النهاية، لا يصدرون من كل كتاب
إلا ألفَي نسخة، في شَعب يزيد تعداده عن التسعين مليونًا. فماذا تفعل الألفَا نسخة
في عشرات الملايين هذه؟!
لكن من حسنات هذا المشروع «الصغير» أن البعض بدأوا
ينتبهون إلى أهمية الالتزام بـ «السمات الأسلوبية والجمالية» بالنص الإبداعي المترجَم،
دون عبث أو وصاية أو فرض لخزعبلات المترجم، أو اغتصابٍ للنص الأصلي.
ماهي معوقات الترجمة الآن في ظلّ المتغيرات والظروف
المترنحة التي نعيش؟
هي هذه الفوضى والعشوائية الناجمة عن تلك الظروف
التي تؤسس للمزاجية شبه المطلقة، بلا منهج، ولا خطة، ولا معيار، سواء في اختيار ما
يُترجم، أو في عملية الترجمة. فهي، في غالبيتها، عملية فردية، لا يمكن السيطرة عليها.
ولا يختلف الأمر كثيرًا لدى مؤسسات متخصصة كـ «المركز القومي للترجمة». فقد تحولت الترجمة
إلى مجال مَن لا مجال له، خاصةً أن الأعمال الصادرة لا تخضع لمراجعة مسبقة، ولا لقراءة
نقدية لاحقة.
(القاهرة)