أثار فوز الفنان بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب في نسختها الأخيرة جدلاً إعلاميًّا انعقد في أغلبه حول استهجان كثرةٍ من الكُتّابِ والمثقّفين الغربيين والعرب تحقيرَ الأكاديمية
السويدية للأدب وإعلانَها الضمنيّ عن موته من خلال تفضيلِها «الغناء» عليه.وفي هذا الشأن قال الكاتب بيير أسولين، عضو أكاديمية غونكور، لوكالة فرانس برس على إثر فوز بوب ديلان بنوبل للآداب: «لقد تردّد اسم ديلان كثيرا خلال السنوات الأخيرة، يبدو أنّ ذلك كان خدعة، وإن منحه جائزة نوبل للآداب أمر مؤلم». وأضاف قائلا: «أنا أحبّ موسيقى ديلان، ولكن لا أعمال له تستحق نوبل، أعتقد أن هذا مسخرة للأكاديمية السويدية، واحتقار منها للكتّاب». وفي الشأن ذاته ذهب يوهان فيربر، وهو جامعي في السوربون وصاحب كتاب «مطبخ الأدباء: من الأدب إلى المعدة»، إلى القول: «في أوائل شهر أكتوبر/تشرين الأول من كلّ عام، يحدث ما هو مُنتَظَرٌ: لن تذهب جائزة نوبل للآداب إلى فيليب روث، وسيفشل دون دليلو في الوصول إليها، وسيضيع أملُ لوكليزو في الحصول عليها من جديد». ويعتبر أن فوز ديلان هو دراما نوبلية تُحيل إلى كون الأدب لم يعد في الكتاب وإنما صار خارج الكتاب، بل ذهب إلى القول إنّ الأكاديمية السويدية تعاني من «مرض تأويلي للأدب»، وأن هذا الاختيار الجذريّ يعبّر عن لحظة تاريخية يعيش فيها الأدب عذابا مستمرا وبطيئا داخل المجال الثقافي والاجتماعي المعاصر، وختم مقالته في مجلة «دياكريتيك» بقوله: «لقد ماتت جائزة نوبل للآداب، يحيا الأدب». وبأسلوب ساخر، كتب الشاعر دنيس سييل مقالة بعنوان «الكاتب الكبير» في المجلة ذاتها قال فيها: «لم أكن كاتبا يوما! كنتُ أكتبُ فحسبُ. أنا مُحتال ونصّابٌ. لقد بدأت التحايل منذ أن كنتُ طفلاً، حيث كان أخي يكتب الشِّعْرَ، وكنتُ أنسخه منه وأمضيه باسمي، كتابي الأول كان نصبًا، تزويرًا للهويّة. أنْ أكتب يعني أن أزوّر وأخفي التزوير». وغير خافية في هذا الشاهد المرارة التي أحسّ بها هذا الشاعر وجعلته ينقم على الكتابة الأدبية ذاتها.
ولم يتخلّف الكتاب العرب عن المشاركة في استهجان اختيار الأكاديمية السويدية لبوب ديلان، وتوزّعوا في ذلك إلى فئتيْن: فئة أولى اكتفت بنقد الجائزة، وفئة ثانية انزاحت بفوز ديلان صوب السخرية من أدونيس. من الفئة الأولى نقف على تقليل فخري صالح من قيمة بوب ديلان في تدوينة فيسبوكية قال فيها: «لا لوم على الجوائز العربية في اختياراتها التي تثير استهجاننا في كثير من الأحيان، إذا كانت لجنة نوبل للآداب تختار مغني الروك الأمريكي للفوز بأهم جائزة أدبية في العالم! أعرف أنه كتب كلمات أغانيه وأثَّر في تحويل الذائقة الغنائية في أمريكا، لكن ألا يستحق الأدباء الأمريكان أن تمثلهم قامة أكبر قليلًا؟». ومثّل فوز ديلان بنوبل للأدب بالنسبة إلى الفئة الثانية من المثقّفين العرب مناسبة للسخرية من فشل أدونيس في التتويج، إذْ كتب فاروق مردم بيك: «يُقال إنّ أدونيس، فور سماعه الخبر، اقترح على زياد الرحباني تلحين أغاني مهيار الدمشقي». وذهب وسام سعادة إلى اعتبار أنّ «كل ما يجب أن يفهمه أدونيس من مسألة منح نوبل للمغني بوب ديلان هو أنه كان عليه أن يكتب الأغاني». وذهب كاتب آخر إلى القول «لم يفز أدونيس بنوبل لأنه يحتقر نباهة قرّائه ويكتب لهم شِعْرًا أعجميا لا يفهمه البشر، فهو حين يكتب يفكّر في أن الذين يكتب لهم ليسوا سوى قطيع من البهائم».
والحق إنني أجد عذرًا ثقافيا للكُتَّاب الغربيّين حين يعتبرون أن ما أنتجه بوب ديلان لا ينتمي إلى الأدب، ذلك أنهم ينطلقون في حكمهم هذا، وهم أوفياء فيه لمَنْطِقِ ثقافتهم، من أنّ لفظة «Littérature» (أي الأدب) متأتّية من اللفظ اللاتيني littera» » (الحرفُ، lettre) وهو شكلٌ يُرسم به المنطوق اللغوي دونما إنباءٍ فيه بحُمولةٍ أخلاقيةٍ أو نفسيةٍ أو اجتماعيةٍ، إنه فعلُ يدٍ، إنه عملٌ يصدُقُ فيه وصف الجاحظ لعلم الكلام بأنه «العلم بصناعة الكلام». وهو ما جعل أشهر نظريات النقد الغربي المعاصر (الشكلانية والبنيوية والسيميائية) تنزع إلى الانصباب بجهدها التنظيري على نظام النصّ داخل جنسِه أو نوعه دون سواه، فلا تمنح صفة الأدب إلا للمكتوب.
غير أني أجد في أفق ثقافتنا العربية ما يبرّر وجاهة قرار الأكاديمية السويدية منح «الأديب» بوب ديلان جائزة نوبل للآداب، وصورة ذلك ما تمنحنا إياه نّما ثقافتنا العربية لمفهوم الأدب، حيث تجعله أفق قيمة، وأفق إتيقا؛ وما عبارة «بيت القصيد» إلا إحالة على مقاصديّة القول الشعري (الغاية المنشودة) أكثر من دلالتها على بنية القصيدة التي كانت لها حِواءً. وربّما بسبب هذا مالت معاجم اللغة العربية إلى منح الجذر (أ، د، ب) معاني المروءة والإيثار على النفس والخُلق الحسن والتربية السليمة قبل أن تخلص به أخيرا إلى الدلالة على الإبداع الكتابي، وهذه المعاني هي جوهر قِيَم الإنسان التي حرص على تأصيلها في سردياته الحياتية فِعْلا وانفعالا عبر أزمنة وجوده المختلفة. واتكاءً على هذا نكون اليومَ مطالَبين بتغيير مفهومنا للأدب، فلا نظلّ حريصين فيه على تقليد مفهومه لدى الغرب. وإذن، فليس الأدب صنيعَ انتمائه إلى جنسٍ إبداعي مّا، وإنما هو حاصلُ الجدل الحادّ الذي يُنجزه ماضي مجموعة بشرية معيّنة وحاضرها مع شروط معيشها المختلفة: الجغرافيا والتاريخ والعقيدة والفن والمظهَر والمطبخ والعقلية الاجتماعية ووحدة الضمير وأشكال التواصل وغيرها، أيْ هو فضاءٌ لمجموع رؤى المجتمع لعالَمه بكلّ أشيائه وأحيائه وطرائقه في التواصل معها تحويلاً وتأويلاً. الأدب هو الواقعُ غيرُ المُتوقَّعِ، وهو الخارج أيضًا بكلّ ما فيه؛ إنه الخارج حين يتخفَّى في اللغة أو في الموسيقى أو في الألوان أو في الإيماءة المسرحية ويكتُبُ اللغة أو الموسيقى أو الألوان أو المسرح، يكتب حكاية الإنسان. الأدب بِدْعةُ الأديب التي يُنقذُنا بها من النّار. إنه حكاية. وكلّ فعل إبداعي ضعيف الحكاية فعلٌ مَيْتٌ؛ كلُّ شيء يمتلك القدرة على التأثير في الخارج هو بالتعريف حكايةٌ: الحرب حكاية، والحبّ حكاية، والموت حكاية، والأسلوب حكاية، والأغنية الجميلة حكاية، والقطعة الموسيقية حكاية، واللوحة الفنية حكاية، ومفاهيم الفلسفة حكايات. وكلّ حكاية هي أدب. لأنه كلما خلا نصّ من حكاية صار لغوا لا غير، واللّغو لا يصنع مجد الأدب ولا يُرغِّب فيه. وما أغنيات بوب ديلان إلا نوعٌ من الأدب، إنها فعل فنيّ حامل لقيم اجتماعية وإنسانية، وذاك في رأيي جوهر الأدب.
٭ كاتب تونسي