قبل أربع سنوات يذكرني الفيسبوك بما كتبت آنذاك
في 26 أكتوبر 2012 ، ومنذ شهر عدت من دمشق في قطار الخيبة ، وماتزال دمشق تئن وتتوجع
، أفما آن لكل الأوغاد
أن يستحوا قليلاً !!!!
توقفت عن الكتابة لإحساسي العميق بوهن الحروف
وتداعيها وعجزها المطلق عن التعبير الأمين لتعقيد الحالة السورية . ومن تابعني خلال
السنوات الأربع الماضية يعرف إنني وجدتُ ملاذاً لحروفي بالملح الساخر وأنا أتلمّس الجرح
السوري . نكأتْ السخرية جراحكم أحياناً ، وكَوَتْ إحساسي الوطني ، وصرتُ بعد إدمان
السخرية بليداً (شَرْوى كثير من الأفاقين ومصّاصي الدماء ولصوص الخبز وزناة خطوط التماس
والمتاجرين بقمل اللحّى المحنّاة وأصحاب التاتو على العضلات المنفوخة بالتسترون ) .
حملتُ صرّة بلادتي وسخريتي وذهبت بعد غياب
لأفتش عن وجه دمشق التي ( في خاطري وفي دمي / وياليت كل مؤمن يحبّها مثلي أنا / ونفتديها
بالعزيز الأكرم ) وللأسف لم أعثر عليها ، ولكنني وضعت يدي على دم حيضها وهي منهكة من
اللهاث في فراش المحنة ، وحين لمست كرز شفتيها أنكرتني ، وإذْ رغبتُ في مسح دموع كبريائها
، سمعتُ أنينها الخافت وهذيان لسانها وهي تدندن ( أيّ دمعة حزن لا.. أيّ جرح في قلب
لا ..أيّ لحظة حيرة لا ..) وأشعل اعتدادها بنفسها ذاكرتي ، فتأبطتُ ذراعها وذهبنا نسترجع
ما فات .
في درس الديانة عام 1954 أمسكني أستاذي أنور
سلطان وأنا أقرأ خلسة قصيدة شعر تتغزل بدمشق خلال درسه بالتجهيز الأولى . وفي نزلة
التجهيز عام 1956 وقفتْ دمشق الغارقة بالعتمة لتؤازر مصر عبد الناصر خلال العدوان الثلاثي
ونغزني أحدهم كي أصفق فصفقت . وفي عام 1958 احتشدت دمشق كلّها تحت شرفة قصر الضيافة
وهي تحتفي بـ (وحدة ما يغلبها غلاب.. تباركها وحدة أحباب..
توصلنا من الباب للباب.. أنا واقف فوق الأهرام..
وقدّامي بساتين الشامْ) وعلى أرصفة شارع أبو رمّانة نمتُ أنا في حدقات الشام الساهرة
. وتلك الدمشق الفاتنة نفسها أهدتني حبّي الأول ورفيقة دربي التي نذرت نفسها لحماية
خيمة أحلامي الوطنية ضد رياح النكران إلى يومي هذا .
وبالأمس، رأيت مهرة المدن تبتلع الحصى وتغصّ
بلقمة التراب ،ورأيتها ذابلة ينهشها الغلاء ويمزق صدرها النشيج وتجثو على ركبتيها تستعطي
الرأفة وفي فمها يلغو الرصاص . وبالأمس سألت دمشق عن سيفها الأموي وعن محي الدين بن
عربي وابن عساكر ونزار قباني ،فتنهدّتْ وأجهشتْ بالبكاء وأنا ألملم دموعها النحاسية
متناسياً ذاكرة التفاؤل التي صادرتها الفوضى، ومتجاهلاً فواتح الأماني التي كبَّلها
الصراخ الأرعن ، ومتجاوزاً رسوخ الصبر الذي مزّقه الهَبَلْ .
غادرتُك يادمشق وليس في جعبتي سوى أسمال المشردين
وأكف الشحّاذين في ساحاتك الخرساء ، وعبوس الوجوه على كراسي الحدائق الوسخة ، وشكاوى
المتذمرين العاطلين من العمل من ارتفاع أسعار العَرَق ، وقرف المُنعمين من وطأة فلسفة
جماهير الميكرو وبؤس وسائل النقل ، والدخان المتصاعد بكثافة من الأراكيل والمنعقد فوق
رؤوس المراهقات الجميلات المحجّبات في المقاهي ذات النجوم السياحية الرفيعة، وتذمر
الأحرار من حواجز الأمن والعسكر في الشوارع ، وفي جعبتي أيضاً صورة آلاف المصلين في
المساجد وخلو المكتبات من المثقفين المختبئين في بيوتهم تحت وطأة الإفلاس ، وعنترية
التجار المحتكرين للسلع واستضراطهم لقيمة الليرة السورية ، والسيارات الفخمة بزجاج
شبابيكها السوداء وسيجار صاحبها الدولاري السمين ، وتبجّح الموالي باستخذائه ، واعتداد
المعارض بصلابة وضخامة بيضاته ! وأخيراً (مكياج) المذيعات السوريات على الشاشة الوطنية
والتاتو (الوشم) مكان الحواجب والتي ستدحر العدو الصهيوني !
لاعنوان لما رأيت في دمشق سوى الإنقسام ، وأصابتني
العدوى فانقسمت على نفسي . بعضي مع لهيب الثأر والحقد ، وعقلي مع اليوم خمر وغداً أمر
، ونفسي يخبو فرحها وينطفئ إقبالها على الشعر والمرأة ، وقلبي يتضامن مع الظلمة ضد
أنوار المستقبل ، وجسدي يترنح بين رجال الحواجز عاجزاً عن المسير، وآهاتي الدفينة تستدرج
دموع قاسيون وبكاء الغوطة ، وروحي تصعد من قاع الأسى ولا سقف تنظر إليه سوى سراب الأحلام .
جعبتي من ذكريات الأسابيع الأربعة التي قضيتها
في دمشق كالحة ومهترئة . مات خال أولادي، ومات أخي، ومات ثلاثة من أصدقائي المقربين
خلال ستة أيام ، دون أن تشفع لهم أحزانهم العميقة في البقاء ولو على ضنك ، ورحلوا إلى
قبورهم لقضاء إجازاتهم ، وغادرتُ أنا كي أحمل رايات الإستسلام لترفرف مهزومة بين عشرات
الأعلام السورية الخفاقة الثائرة والمنتفضة والمتمردة والمفاوضة ، من جوبر إلى إدلب،ومن
دير الزور إلى درعا ، وأنا ألهث في السعي على تقاطع الدروب بحثاً عن عنوان لسورية ،
لكن ووامعتصماهْ ..... لا عنوان سوى اللقمة الصعبة والبَاهْ !!
الكويت 11 أكتوبر 2016