بقلم الصادق العثماني
شيء لا يقبله العقل السليم والفهم السليم للدين.. كيف يرتكب باسم الإسلام ما يحرمه
الإسلام نفسه..؟!! لكن عندما يغيب العقل والتعقل والحكمة والفهم الصحيح لرسالة الإسلام التي أتت رحمة للعالمين، تتصدر الحماقة والجنون والوحشية تصرفات هذا الإنسان..!
ومن يقرأ أحداث التاريخ الإسلامي والعالمي، وما جرى ويجري علي ساحاته من أحداث إلى حد الآن، قد لا نصدق ما نقرأه بين جوانح وبطون هذا التاريخ من مصائب ومآسي يشيب لها الولدان، وتقشعر منها الأبدان، وعندما نعمق النظر أكثر ونبحث عن العلل والأسباب التي أدت إلى هذه المآسي نجد أن عدم فهم الدين فهما صحيحا له نصيب في هذا؛ لأن الدين سيف ذو حدين كما يقال، يمكن أن يستعمل في الاتجاه الصحيح من خلاله نبني الإنسان والأوطان ونصنع الحضارة والتاريخ، أو يتم تسييسه واستعماله في تخريب البلاد وقتل العباد..!!
التكفير ظاهرة عرفتها الديانات السابقة قبل الإسلام
ومن هنا تأتي قضية تكفير المسلمين من قبل أناس ليس لهم لا في العير ولا في النفير، مع العلم أن التكفير ظاهرة قديمة، عرفتها الديانات السماوية كالمسيحية واليهودية، وقد راح ضحيتها الملايين من النصارى بسبب الحروب الدينية التي دارت رحاها فيما بينهم، وانقسمت المسيحية إلى فرقتين كبيرتين وهي الكاثوليكية والبروتستانتية كل واحدة تكفر الأخرى، وهكذا حصل بين الديانة اليهودية والمسيحية.
كذلك، يقول سبحانه وتعالى:” وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب..”. أسباب التكفير وللتكفير أسباب ومسببات كثيرة، ومن أهمها في دين الإسلام ضعف الإيمان، مع عدم فهم روح الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، ناهيك عن عدم فهم التكفيري أو المتنطع حقيقة العبادة الذي خلقنا الله من أجلها يقول سبحانه: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون”؛ لذا أصبحت الشدة والعنف والتطرف والفظاظة والغلو سمة من سمات الجماعات التكفيرية، بسبب الخلل الحاصل عندهم لمفهوم رسالة الإسلام وأهدافها النبيلة والإنسانية، والذي اختزلوها في حلق الرأس وتطويل اللحية، وتقصير السروال، وتقطيب الجبين، مع الشدة في القول والفعل، والميل إلى تحريم كل شيء، وجعله هو الأصل ؛ بينما الإسلام وما جاء به نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، من قيمه وأصوله وأركانه الذي بني عليها التيسير لا التعسير، وأن التكفير وتنطع هؤلاء في المسائل الخلافية وإثارتها بين العامة وعلى صفحات الجرائد ومواقع الشبكات العنكبوتية دليل جهل برسالة الإسلام وأحكامها ومقاصدها.
ومما يؤكد أن هناك علاقة حميمية بين قلة المعرفة والفقه والتنطع والتشدد والتكفير حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ” إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا، ولكن بعثني معلما وميسرا”، فمدارس ومناهج التيسير في الحقيقة دائما ارتبطت بالفقهاء والعلماء الكبار، ولذلك كان حبر هذه الأمة وترجمان القرآن ومن دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل ابن عباس رضي الله عنه، هو أفقه الصحابة ورائد هذه المدرسة.
وحين ندرس تاريخ الإسلام والجماعات الدينية عبر تاريخ الأمة الإسلامية، نجد هذه الظاهرة التكفيرية بدأت بذورها في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، على يد رجل يقال له “حرقوص” وهو مؤسس مذهبهم؛ بحيث واجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حنين بمقولته المتكبرة: اعدل يا محمد! أو: لم تعدل يا محمد! وفي رواية البخاري: 4/179: يا رسول الله اعدل! ومعناها أنك لست عادلاً وأنا أعدل منك وآمرك أن تعدل! وقد عرف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن مصيبة “حر قوص” هذا من عجبه بنفسه حتى انه ليرى أنه أفضل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس أجمعين!… تفاقمت هذه الظاهرة واشتد خطرها مع جماعة “الخوارج” في عهد الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، ولقد كانت أزمتهم وانحرافهم، ليس فيما يتعلق بأداء العبادات والواجبات من صلاة وزكاة وصيام وحج ونحو ذلك ؛ بل انحرافهم وتنطعهم وتكفيرهم لأهل القبلة أتى عن طريق فكرهم العقيم، مع ضعف البصيرة لحقيقة الدين، ولنصوص القرآن الكريم.
تكفير الصحابة
فقد كانوا يقرءون بدون تدبر، ويحفظون بدون وعي، لذا كفروا أكثر المسلمين والصحابة على الخصوص، وفي مقدمتهم سيدنا الإمام علي رضي الله عنه. فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد تنبأ بانحرافاتهم ولهذا فضحهم وكشفهم ووطفهم في أكثر من حديث، كما حذر منهم الصحابة الكرام، عن أبي سعيد الخدري قال بعث علي عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة (قطعة ذهب) فقسمها بين أربعة، بين الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم المجاشعي وبين عيينة بن بدر الفزاري، وبين زيد الخيل الطائي، ثم أحد بني نبهان وبين علقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، قال: فغضبت قريش والأنصار وقالت يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا فقال: إنما أتألفهم قال فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين كث اللحية، محلوق قال: اتق الله يا محمد فقال صلى الله عليه وسلم من يطيع الله إذا عصيته؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟؟ قال فسأل رجل قتله -أحسبه خالد بن الوليد- قال فمنعه قال فلما ولى قال: إن من ضئضئ (أي من أصله) هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان لئن أنا أدركتهم قتلتهم قتل عاد”
صفات التكفيريين كما سردها الإمام علي
وفي هذا السياق يقول الإمام علي رضي الله عنه، الذي خاض مع جماعات التكفير صراعات قوية، ومناظرات علمية كثيرة، جعله من خلالها يفهمهم فهما عميقا دقيقا إذ يقول رضي الله عنه وهو يصفهم: ” إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّايَاتِ السُّودَ فَالْزَمُوا الأَرْضَ فَلا تُحَرِّكُوا أَيْدِيَكُمْ، وَلا أَرْجُلَكُمْ، ثُمَّ يَظْهَرُ قَوْمٌ ضُعَفَاءُ لا يُؤْبَهُ لَهُمْ، قُلُوبُهُمْ كَزُبَرِ الْحَدِيدِ، هُمْ أَصْحَابُ الدَّوْلَةِ، لا يَفُونَ بِعَهْدٍ وَلا مِيثَاقٍ، يَدْعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ، أَسْمَاؤُهُمُ الْكُنَى، وَنِسْبَتُهُمُ الْقُرَى، وَشُعُورُهُمْ مُرْخَاةٌ كَشُعُورِ النِّسَاءِ، حَتَّى يَخْتَلِفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، ثُمَّ يُؤْتِي اللَّهُ الْحَقَّ مَنْ يَشَاءُ”.
ومن أغرب قصص الخوارج: ذبح مسلم تقرباً إلى الله، والتعفف عن تمرة كافر تورعا، يقول ابن كثير: “وكان من جملة من قتلوه – يعني الخوارج- ابن الصحابي الجليل عبد الله بن خباب صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أسروه وامرأته معه وهي حامل فقالوا له: من أنت؟ فقال: أنا عبد الله بن خباب صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وأنتم قد روعتموني، فقالوا: لا بأس عليك، حدثنا ما سمعت من أبيك. فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: “ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي”، فقادوه بيده، فبينما هو يسير معهم إذ لقي بعضهم خنزيرا لبعض أهل الذمة فضربه بعضهم بسيفه فشق جلده، فقال له آخر: لم فعلت هذا وهو لذمي؟ فذهب إلى ذلك الذمي فاستحله وأرضاه. وبينما هو معهم إذ سقطت تمرة من نخلة فأخذها أحدهم فألقاها في فمه، فقال له آخر: بغير إذن ولا ثمن؟ فألقاها ذاك من فمه، ومع هذا قدموا عبد الله بن خباب فذبحوه، وجاءوا إلى امرأته فقالت: إني امرأة حبلى ألا تتقون الله، عز وجل! فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها..” (البداية والنهاية (10/ 584) وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول عنهم: “يقتلون أهل الإسلام ويدَعون أهل الأوثان” (متفق عليه).
مدرسة التكفير تحصد الأرواح
وهكذا استمرت مدرسة التكفير تتناسل جيلا بعد جيل عبر تاريخنا الإسلامي تحصد الأرواح وتسفك الدماء وتهلك الحرث والنسل، حتى أكابر علماء امتنا الإسلامية أمثال الرازي والخوارزمي والكندي والفارابي والبيروني وابن سيناء وابن الهيثم والغزالي وابن رشد والعسقلاني والسهروردي وابن حيان والنووي وابن المقفع والطبري والنسائي والشافعي و الكواكبي والمتنبي وبشار بن برد ولسان الدين بن الخطيب، وابن الفارض ورابعة العدوية والجاحظ والمجريطي والمعري وابن طفيل والطوسي وابن بطوطة وابن ماجد وابن خلدون وثابت بن قرة والتوحيدي… لم ينجوا من سلاح التبديع والتفسيق والتكفير والشنق والطرد..!!
من منا لا يفتخر بهؤلاء الكوكبة من العلماء وبإنجازاتهم العلمية الرائعة في الفلسفة والفزياء والكمياء والطب والهندسة والجغرافيا والفقه والقانون والآداب والفلك والزراعة والبيطرة والجبر والحساب والفنون والآداب..؟؟ كانوا رحمهم الله أساتذة الشرق والغرب والعالم كله مدين لهم، ومازال يقتات على فتاتهم، ولولا إسهاماتهم في شتى العلوم والمعارف لكانت أوروبا إلى يوم الناس هذا تعيش في ظلام دامس..!!
لكن العار كل العار عندما نراجع قصص هؤلاء العلماء الكبار في تاريخنا الإسلامي وما تعرضوا له من قبل فقهاء وشيوخ التكفير نصاب بالحيرة والدهشة، نرجو التكرم من قرائنا الكرام السماح لنا بعرض القليل منها ليس لغرض التشهير والتسلية، وإنما من أجل العبرة، فاعتبروا يا أولي الأبصار..أقول: هؤلاء العلماء الأعلام صدرت ضدهم سلسلة من الأحكام التكفيرية، بنفس التهمة التي كانت تصدره محاكم التفتيش في إسبانيا وفرنسا والبرتغال والبرازيل على العلماء الذين حاولوا إماطة الظلام عن الكنائس “الكهانوتية” ومنهم غاليلو، وجيوردا، ونويرنو، وكوبرنيكس، ونيوتن، وديكارت، وفولتير، وحرمت قراءة كتبهم، وتعذيبهم ومطاردتهم..، نفس الأمر نجد سلاح التكفير والتفسيق طالت الطبري بتحريض الغوغاء والعامة على قتله، وتم تكفير الرازي وابن سيناء والفرابي والكندي والغزالي، وابن رشد والأصفهاني..كما كفروا ابن الفارض وطاردوه في كل مكان، وقتل السهروردي، وقطعت أوصال ابن المقفع، ثم شويت أمامه ليأكل منها قبل أن يلفظ أنفاسه، وكل هذا مع الأسف كان يتم تحت غطاء محاربة البدع وتطبيق شرع الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما ان الجعد بن درهم مات مذبوحا، وعلقوا رأس أحمد بن نصر وداروا به في الأزقة، وخنقوا لسان الدين بن الخطيب وحرقوا جثته.. نسوق هذا الكلام ليس من أجل أن نحيي العظام والجماجمة وهي رميم! أو نخرج النفوس الطاهرة الزكية من قبورها التي ذهبت ضحية فتاوى التكفير، ظاهرها الحرص على شريعة الإسلام وسنة النبي العدنان، وباطنها الانتقام من الخصم السياسي للوصول إلى سدة الحكم، وتحقيق مصالح شخصية ضيقة لا تغني من الحق شيئا.
لقد ذكر أبو حيان التوحيدي في كتابه “البصائر والذخائر” بأنه أتى رجل من الخوارج إلى الحسن البصري رحمه الله، فقال له: ما تقول في الخوارج؟ قال الحسن: هم أصحاب دنيا، قال: ومن أين قلت أنهم أصحاب دنيا، والواحد منهم يمشي بين الرماح حتى تتكسر فيه، ويخرج من أهله وولده، قال الحسن:حدثني عن السلطان! هل منعك من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والحج والعمرة؟! قال: لا، فأراه إنما منعك الدنيا فقاتلته عليها. الإسلام أوسع وأشمل في أن يختزل في جماعة إسلامية.
متى تفهم الجماعات التكفيرية أن الإسلام بتشريعاته وعباداته ومعاملاته وأحكامه ومكارم أخلاقه أوسع وأشمل من أن يختزل في حزب سياسي أو طائفة أو مذهب أو شيخ أو جماعة من الجماعات..؟؟ وما يدعونه هؤلاء بأنهم هم الطائفة الوحيدة التي تمثل الإسلام وتسير على منهج السلف الصالح وما سواها من الجماعات في النار، يكونون في الحقيقة قد أساؤوا للإسلام ولرسول الإسلام، وساهموا في تمزيق كيان الأمة المسلمة الواحدة، وفي هذا المعنى قال البغدادي: “كان المسلمون عند وفاة رسول الله على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه، غير من أظهر وفاقا وأضمر نفاقا ” فجميع الجماعات التكفيرية المتواجدة على الساحة الإسلامية اليوم بمشاربها ومناهجها وأفكارها المتنطعة كلها ستتساقط وتذوب وتتلاشى أمام جماعة المسلمين الكبرى المنضوية تحت شعار”لا إله إلا الله محمد رسول الله”، وكل من دعا إلى غيرها فإنما يدعو بدعوى الجاهلية.
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”من دعا بدعوة الجاهلية فهو من جثاء جهنم وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها مسلمين عباد الله ” صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكأنه ينظر بأم عينيه الشريفتين إلى حال أمته وحال هذه الجماعات وما وصلوا إليه من تقديسهم لمذاهبهم ومشايخهم وطوائفهم..!! ؛ بحيث قدسوا المذهب والطائفة والزعيم والشيخ، فتراهم يستشهدون بكلامه في دروسهم وخطبهم ومواعظهم أكثر مما يستشهدون بأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبآيات الذكر الحكيم، ويتبعون أوامره ونواهيه بدون نقاش ولا تعقل ولا تفكر، وكأنه وحي يوحى صدر من نبي مرسل، أو ملك مقرب.
فبمجرد مخالفتك لهؤلاء في مسألة ما تكفر مباشرة..!!فتحولت مع الأسف المذاهب الفقهية عندهم إلى أحزاب سياسية وإيديولوجية كل حزب بما لديهم فرحون، جاء رجل إلى الإمام مالك فقال: يا أبا عبد الله: أسألك عن مسألة أجعلك حجة فيما بيني وبين الله عز وجل، قال مالك: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، سل، قال الرجل: من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا قدري ولا رافضي ( رواه ابن عبد البر في الانتقاء ص:35 ) .
وكذلك كان كل من السلف الصالح يقولون، أما هذه التيارات الجهادية التكفيرية التي نشاهدها على خريطة العالم الإسلامي اليوم ما هي إلا معاول هدم بيد الدول الكبرى والمخابرات الغربية يستفزون من خلالها الحكومات العربية والإسلامية للمزيد من الانبطاح وللمزيد من تحقيق أطماعهم الاستعمارية، وما الربيع التخريبي الاستعماري عنا ببعيد..