ثعلبٌ ينامُ في حدائقِ السرياليِّين
نمر سعدي
فلسطين
*
قصيدتي إمرأةٌ صامتةٌ لا تصهَلُ كأحصنةِ نزار قباني، ولا تذرعُ دهاليزَ التبغِ كالسيَّاب، وقطعاً لا تحبو على الأرضِ عاريةً كجدِّها جرير، ولا تصطحبُ عشيقها في رحلةٍ نهريَّةٍ.
الشيء الوحيدُ الذي تفعلهُ عندما تأتي هو أن تمدَّ يدَها النحيلةَ مثلَ عودِ ثقابٍ، وبدهشةِ طفلٍ غجريٍّ تُشعلُ وردةَ دمي المطفأةْ.
*
ظلُّكِ ثلاثيُّ الأبعادِ
كسرَ أصابعَ البيانو بأناقةِ عاشقٍ
وأعادَ قصبَ حنيني إلى النبعِ
ومزَّقَ مخطوطةَ قصائدي
وبعثرَها حولَ بيتي
ثمَّ جلسَ على أريكتي
ينفثُ غيمَ سجائرهِ على وجهي
*
لأيلولَ صوتُ قطَّةٍ يتيمةٍ
قرعَتْ بابَ أوَّلِ غيمةٍ ساهرةٍ
ورمقتني بحنوِّ يكفي لانصبابِ الشتاءِ في قلبي
في تلكَ الليلةِ لم أكن وحيداً تماماً
كانَ ثمَّةَ قصيدةٌ تتفتَّحُ في يدي وجهَ أقحوانةٍ
تنزعُ يدُ الليلِ أوراقها بغباءٍ بالغٍ
عرفتُ بالصدفةِ بعدَ ثلاث سنواتٍ
أنَّ ضيفتي الطارئةَ لم تكن مجرَّدَ قطةٍ حزينةٍ
كانت رمادَ جسدِ شاعرةٍ يجوبُ الأرضَ وهو يشتعلُ
على هيئةِ قطَّة
*
كلَّ يومٍ أتفحَّصُ دمي
هل ما زالَ يخفقُ في الشرايين؟
أتنشَّقُ صوتَ فيروز
هل ما زالَ يحتفظُ برائحةِ وردةِ النارنج؟
أسألُ ألفَ قناةٍ عالميَّةٍ
عن رحيلِ الحروبِ الأخيرة
أتأكَّدُ من أنَّ التفاصيلَ الصغيرةَ
ما زالت موجودةً في حياتي
كأن أُفكِّر بقلبِ امرأةٍ مُغلقٍ منذُ شهرين
وأنا أدخلُ في سحابةٍ مرتحلة
*
قالَ شاعرٌ كهلٌ لشاعرٍ شاب:
لا تكن تعيساً مثلي
ولا تحوِّل عمرَك لدواوين حبٍّ طويلةٍ
لامرأةٍ لا تستحقُّ حرفاً منها
في النهايةِ وبعدَ فواتِ الأوان
لا فرقَ بينَ نظراتِ العاشقِ والأبله
*
مهرةٌ جامحةٌ
ليسَ من عادتي أن أسجنَها في قلبي
مكسَّرِ السياجِ والعرباتِ
تعلَّمتُ أن أضعَ فمي على وجهها
هامساً لها برفقٍ: كم أُحبُّكِ
ثمَّ أفتحُ لها بوَّابةَ جسدي السماويَّة
*
يدُكِ التي تزورُ الأنهارَ الجافَّة كلَّ ليلةٍ
هيَ نفسُها الوردةُ البيضاءُ
التي كانَ يحملها إدغار ألن بو معهُ إلى النومِ
وهيَ الفراشةُ التي أخذتْ معها ناياتِ الغجرِ إلى بيتها القمريِّ
خوفاً عليها من عرباتِ اللصوصِ والأوغادِ
ذوي الورودِ السوداءِ الاصطناعيَّةِ والمعاولِ المدبَّبة
لا خوفَ على أيِّ شيءٍ بعدَكِ من يأسِ القصائدِ
إذا صارتْ يدُكِ حديقتي للأبدْ
*
كنتُ أُخفي دموعي في أكمامي
كالثعالبِ العاشقةِ
وأنا أبحثُ عن تُفَّاحةِ قلقٍ ناضجٍ
في مطالعِ القصائدِ الجاهليَّة
وأبتسمُ في وجهٍ لا تعبيريٍّ
لنادلةِ حياتي
*
حيادي الذي هو تاجي الشوكيُّ
والمساميرُ السوداءُ الغليظةُ والصليبُ والألم
يؤرِّقُ البشرَ الطيِّبينَ جدَّاً
والمصابينَ بالحنينِ والندمِ والهستيريا..
كانوا يتنزَّلونَ من قطارٍ فضائيٍّ
في طريقٍ مرصوفةٍ بآهاتٍ
يهشُّونَ بها على بعضهم البعض
وعلى النسوةِ الوحيدات وقصائدي الأولى
وكانَ الرثاءُ المالحُ خبزي ومائي
وأنا أنامُ في حدائقِ السرياليِّين
*
كلمَّا تعثَّرتُ بحَجَرٍ غبيٍّ يدَّعي أنهُ قمرٌ
لسوءِ حظَّهِ سقطَ على الأرض
وبشاعرٍ يدَّعي أن (لا نبيَّ في وطنهِ(
تيَّقنتُ بأنَّ لا أقمارَ في السماءِ التي خارجَ قلبي
وأنَّ الشعراءَ أنبياءٌ كذبة
*
حريَّتي خارجَ حياتكِ هي أفظعُ سجوني على الإطلاق
هيَ هذهِ العصافيرُ المنهارةُ من الزمهريرِ والنقرِ على نوافذكِ المغلقة
حريَّتي شاعرٌ يُغنِّي بغصَّةٍ:
خفيفاً كريحِ الصَبا سأهبُّ فلا توصدي البابَ والقلبَ دوني
سأرمي ورائي خريفَ الغيابِ فردِّي دمي من خرابِ الحنينِ
*
خذي الماءَ من صوتي واشربيهِ على مَهَلٍ
فصوتي لا يبدو جافَّاً مثلَ وادٍ من الملحِ
وأنتِ لا تبدينَ ريَّانةً مثلَ زيتونةٍ مضاءةٍ باخضرارها
*
إذا لم يخمشْ مطرُ الخريفِ قلبكَ
الشبيهَ بقُبَّرةٍ فقيرةٍ
فهو ليسَ بمطرٍ أبداً
إذا لم يقدكَ الشِعرُ للمقاصلِ المغطَّاةِ بالحريرِ
فأنتَ لستَ بشاعرٍ على الإطلاق
*
رسائلي المربوطةُ بخيطٍ كتَّانٍ ملوَّن
والمبعثرةُ مثلَ تفاصيلكِ الصغيرةِ في ردهةِ حياتكِ الضيِّقة
لن تنجحي بفكِّ طلاسمها مهما فعلتِ
فهيَ غامضةٌ وسرِّيَّةٌ ومشفَّرةٌ كخطوطِ الأطباء
أو كلغاتِ الطيورِ التي انقرضتْ قبلَ ملايين السنين
*
الكمنجةُ العذراءُ المريضةُ على الدوامِ في ظهيرةِ أيلول
والموشومةُ على ظهرِ شبيهةِ مدام بوفاري
داويتها بشقائقِ ليلٍ سريعٍ
وأهديتها لأوَّلِ ذئبٍ مؤرَّقٍ خرجَ من معلَّقةِ امرئ القيس
*
مثلَ جنديٍّ سنتمتاليِّ يحشو بندقيَّتهُ برسائلِ الحُبِّ
أحشو نعاسي بالنهاياتِ السعيدةِ وبالرواياتِ غيرِ المكتملة
مثلَ ملكٍ ينتحبُ على أنقاضِ مملكتهِ
أعجنُ رذاذَ الفلوريسنت بدمي
واهطلُ كالسحابةِ في غرفتي المغلقة
*
أنحتُ أنفاسي على هيئةِ تنهدَّاتكِ في الصباح