تعلن مؤسسة الحوار المتمدن عن اعتذارها وبشّدة وأسفها
العميق لنقلها خبر " وفاة " المفكر اليساري والعلماني الكبير د. صادق جلال
العظم إثر خطأ في معلومات وصلت
نجدد اعتذارنا له وللجميع.
مؤسسة الحوار المتمدن
العلمانية والمسألة الدينية
لربما من المفيد أن أبدأ مداخلتي بتوصيف للربيع
العربي ولأهم مستجداته وتجديداته وإنجازاته في الحياة السياسية والاجتماعية لبلدان
عربية مركزية ومهمة.
الربيع العربي هو ببساطة عودة السياسة إلى الناس
وعودة الناس إلى السياسة بعد اغتراب وابتعاد طويلين بسبب من المصادرة والاحتكار المديدين
لكل ما هو سياسي في مجتمعات عربية معينة من جانب نخب عسكرية ومن لفّ لفّها من مصالح
طبقية وتجارية وبيزنسية أغلقت الدائرة على نفسها وتحولت إلى ما كنت أسميه سابقاً
"بالمجمع العسكري-التجاري" (Merchant-Military
Complex) ومايسميه جيل جديد
من النقاد والمعلقين والنشطاء في سوريا اليوم بالمجمع العسكري- التجاري – الأمني –
المالي، لكن مع الاحجام عن الدخول في أي من تفاصيله.
كما يعني الربيع في سوريا- ببساطة أيضاً- إسترجاع
الجمهورية من السلالة الحاكمة إلى الأبد، ومن مجمعّها العسكري- التجاري الاحتكاري لكل
شيئ مهم في البلد.
لذا سأحاول تقديم توصيف تقريبي سريع لهذا المجمع.
فسوريا كلها تعرف ،على سبيل المثال، أن الطرف الأول في هذا المجمع يتألف من أمراء العسكر
والمخابرات والحزب والقطاع العام ومن الأجهزة الحكومية الإدارية العليا ومن بعض الاحتكارات
المجزية جداً والمستحدثة أخيراً وجميعها واقع تحت السيطرة العلوية شبه الكاملة. كما
تعرف سوريا كلها أيضاً بأن الطرف الثاني في المجمّع يتألف من شرائح اجتماعية مدنية
ومدينية وبيزنسية ماسكة بالقطاع الخاص وجميعها واقع عملياً في القبضة السنية.
أما الرموز البشرية التي تدير هذا المجمّع وترعاه
فقد تحولت مع الأيام إلى نخبة فاسدة ومتعجرفة إلى أقصى الحدود وواعية بنفسها ولنفسها
كطبقة حاكمة مغلقة تتصرف بصلف وفوقية واستعلاء وغرور لاححدود لها معتبرة أنه من حقها
أن تكون فوق أي مساءلة أو محاسبة أو نقد مهما كان نوعها أو كانت لطافتها.
تقوم هذه الرموز في النهار بتصريف الأعمال اليومية
لسوريا أما في المساء فتختلط وتتلاقى اجتماعياً وتسهر معاً، تدبر الزيجات بين الأبناء
والبنات وتعقد الصفقات المربحة من جميع الأشكال والألوان والأحجام وراء الأبواب المغلقة.
تعرف دمشق مثلاً أن هؤلاء كلهم يحضرون الحفلات والسهرات ذاتها ويرتادون المطاعم والمقاهي
الراقية والنوادي الليلة نفسها ولايتركون مجالاً من مجالات التباهي الأجوف بالاستهلاك
المظهري والتفاخري إلاّ وينغمسون فيه صبحاً ومساءً. كما تعرف دمشق أن نساءهم يشاركون
معاً في حفلات الاستقبال إياها ويحضرون سوياً الفعاليات الاجتماعية والخيرية والثقافية
نفسها أيضاً. مع ذلك فإنهما يكرهان ويبغضان ويحتقران بعضهما بعضاً إلى مالا نهاية.
كل طرف من طرفي هذا المجمّع قوي بالنسبة لمقدرته السلبية على هز المجمّع بأكمله وحتى
تخريبه ولكنه ضعيف في مقدرته على الفعل الإيجابي والعمل البنّاء داخله وخارجه.
لذلك تجدهما متضامنين متكافلين ومتكاتفين في حماية
المجمّع وفي صون ترتيباته واجراءاته واستمراريته وفي إبقاء كل شيء على حاله في سوريا.
هذا، على الرغم من أن الطرف المدني التجاري سئم أخيراً إلى حد الغثيان من الشراكات
المفروضة عليه بالقوة ومن جانب الطرف الآخر في أعماله التجارية والصناعية والبيزنسية
عموماً ومن الأتاوات التي عليه أن يدفعها مرغماً للطرف العسكري- الأمني حتى تسير الأشغال
والأعمال كما يجب، ومن الجبايات التي ينتزعها الطرف الأول بالقوة الناعمة أولاً والخشنة
إذا لزم الأمر.
ومن أهم النتائج التي أفصحت عنها هذه العودة الربيعية
للناس إلى السياسة: أولاً الهزيمة الكاملة والنهائية لفكرة إنشاء سلالات حاكمة في بلدان
مثل مصر وليبيا والعراق واليمن عبر نقل السلطة بشكل آلي ومباشر إلى أبناء الحاكم أو
إلى أخوته وأقاربه، وثانياً الانتصار، من حيث المبدأ، لقاعدة تداول السلطة ديمقراطياً
وانتخابياً وليس تداولها عائلياً وسلالياً. ومعروف أنه تمّ التعبير عن ذلك كله في الصيحة
الشعبية المدوية للربيع العربي: "لاتمديد، لا تجديد، لا توريث".
أفصحت هذه العودة الشعبية المتبادلة إلى السياسة
عن تطور هام يمكن تسميته بـتجربة ميدان التحرير الجديدة على المجتمعات العربية إن كان
ذلك في القاهرة (حيث محور هذه التجربة ومركزها) أو في تونس العاصمة أو في صنعاء أو
في بنغازي، ولكن ليس في حمص، سوريا لأسباب معروفة للجميع. ومنذ زمن بعيد لم يحدث أن
تركزت مطالب ميدان التحرير وشعاراته ونداءاته وصيحاته وأهدافه على قيم المجتمع المدني
و تطلعاته وبرنامجه، كما تركزت في انتفاضات الربيع العربي الراهنة.
مطالب "ميدان التحرير" وأشواقه وشعاراته
جميعها كانت تدور حول الحرية والحقوق، والكرامة الوطنية والكرامة الشخصية، التعددية
والديمقراطية والشفافية والمساواة والعدالة الاجتماعية. ومع أن القمع العسكري- الأمني
في سوريا جعل تجربة "ميدان التحرير السلمية" مستحيلة، مع ذلك ليس بالقليل
أن تنعت انتفاضة الشعب السورية نفسها بـ "ثورة الحرية والكرامة" متواصلة
بذلك مع تجارب "ميدان التحرير" وتطلعاتها في البلدان العربية الأخرى.
مع ذلك أقول أنه كان لسوريا دوراً رائداً في هذا
كله. وأعنى بذلك "ربيع دمشق" الذي أطلقته الأنتلجنسيا السورية سنة 2001 والذي
شكل، في نظري، "المقدمة النظرية" والبروفا الأولية السلمية والمسالمة كلياً
وقتها لما ستتفجر عنه ميادين التحرير العربية من مطالب وشكاوى ونداءات وتطلعات وتضحيات.
أقول أن الريادة في هذا المضمار كانت لربيع دمشق لأن مجموع الشعارات والمطالب والاحتجاجات
التي رفعتها ميادين التحرير من تونس إلى اليمن مروراً بالقاهرة وبنغازي والمنامة، موجودة
كلها تقريباً وبصيغة راقية وصياغة واضحة في الوثائق النقدية – السياسية – المدنية
– الإصلاحية التي طرحتها بقوة وشجاعة "حركة إحياء المجتمع المدني في سوريا"
أثناء ربيع دمشق المقموع بشراسة استثنائية، ليتبين فيما بعد أن ربيع دمشق المكبوت عاد
تاريخياً على صورة ثورات شعبية عارمة على من قمعوه وتفتح عن أفكار وأشواق جاء زمانها
اليوم وحان وقت قطافها الآن.
في تجربة ميدان التحرير، انتقلت كاريزما اللحظة
الثورية من التمركز العربي التقليدي على قائد أو زعيم واحد أوحد لا عديل أو بديل له،
إلى حراك جموع الميدان نفسها وإلى تصميمها وإشعاعها وأثرها في الجموع نفسها كما في
محيطها الأوسع وعالمها الأكبر. فتجربة ميدان التحرير غير مسبوقة –على حد علمي- في تاريخنا
السياسي والاجتماعي المعاصر، أي في تاريخ التظاهر العربي أو أشكال الاحتجاج الشعبي
أو أنواع المعارضة السياسية الجماهيرية سابقاً.