«فالذين يتسولون بالسياسة يشكلون لك صدمة، بل هم أنفسهم صدمة كبيرة لهذا البلد»حين يطرق بابكم السياسي المتسول و يقول لكم : صوتوا علينا في سبيل الله :
فينبغي عليكم أن تتذكروا تلك اللحظات العصيبة التي مرت بكم: فما الذي يريده هؤلاء الذين ساهموا في مأساة هذا الشعب ؟وأي برنامج هذا الذي يتحدثون عنه ؟ و ما علاقة فشلهم في التدبير بالمستقبل؟ ألا يكون هؤلاء الذين يتنافسون من يـمر قبل الآخرين ينتهون في صراعهم إلى نسيان هـدف سـباقهم و هـو سـعادة الأبريـاء؟لا نسعى من وراء هذه الأسئلة المضطربة أن تقوم بتفكيك صناعة السياسة على طريق المراء، ببيان سوفسطائي الذي ينفع في كل المدن التي تضاد المدينة الفاضلة مثل المدينة الجاهلة، والمدينة الفاسقة، والمدينة المبتذلة، والمدينة الضالة، لأن أهل هذه المدن حرموا من البيان البرهاني، ومن سياسة الحرية، ويعيشون في شقاء أبدي، ولذلك لا يحتاجون إلى الفلسفة التي تسعى إلى إيقاظ العقل من سباته الدوغمائي، لأن العقل قد مات فيهم، وأصبحوا يتلذذون بأجسادهم كالبهائم، هكذا تكون سياسة «السوقة» هي وحدها من يستطيع تدبيرهم، ولعل الفارابي كان مطمئنا لسكان هذه المدن وللشقاء الذي ينتظرهم، حيث نجده يقول: «المدينة الضرورية هي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمسكون والمنكوح والتعاون على استفادتها… ومدينة الخسة والسقوط هي التي قصد أهلها التمتع باللذة من المأكول والمشروب والمنكوح…
ولا يتوقف الفارابي عند وصف هاتين المدينتين، بل يحتقر المدينة الفاسقة، والمدينة الضالة، ومدينة التغلب وغيرهم، ذلك أن هذه المدن تلتهم زمانها في المحسوس والتخيل والتمويهات والمخادعات والغرور، مما يجعلها تضع بينها وبين الحقيقة حجابا على حجاب، وتضطهد العلوم والفلسفة لأنها مصابة بالصمم الذي يبعدها عن متعة الغاية، ويمنحها إقامة بئيسة بجوار متعة اللهو: «فهم سعيهم إلى متعة الغاية يستبدلونها بمتعة اللهو..
ولعلنا لا نخطئ الظن باعتقادنا أن هذا هو السبب الذي يلتمسون لأجله تحصيل السعادة بواسطة تلك اللذات وبخاصة لذة الغناء والموسيقى التي تهيج النفس لتتوجه بشراسة نحو المأكول والمشروب والمنكوح، ولعل الشره في هذه اللذات مفسد للأخلاق، وإذا انهارت الأخلاق في بلد ما، فإن السياسة تنهار بدون شك، لأن خير الأخلاق هي دوما خير السياسات، وهذه هي المبادئ الأساسية التي تعتمد عليها كل الدول المعاصرة والتي تسعى السلطة إلى تطبيقها في برامجها التربية والثقافية، ذلك أن السياسة المدنية هي خير إلى أن ينتهي الخير، لأن كل ما ليس بخير فهو شر، ولذلك أن شر السياسة يتجلى في سياسة «السوقة» التي تعتمد على تلك الأخلاق الشعبية، حيث يسود الاعتقاد في الخرافة والشعوذة والسفسطة، التي تعد في الحقيقة مواطنين من أحط الطبقات يتباهون بالأمور القبيحة الفظة.
فما الذي يجعل السياسة كسلاح يستخدمه الإنسان ضد الإنسان من أجل حرمانه من الخير والسعادة؟ ومن أين استمدت السياسة هذا الشر العام؟ وكيف أصبح «السوقة» يتعـاطون السـياسة؟
إذا كان لا سبيل لهم أن ينصرفوا إلى تحصيل أصول الفضيلة، فكيف يمكنهم معرفة السياسة باعتبارها أشرف العلوم، لأنها نظام للدول يتناول كيفية توزيع السلطات، ويحدد السلطة السياسية العليا، وغاية كل مجتمع، والشرائع المتميزة عن القوانين الأساسية الدالة على نهج السياسة، وهذه المبادئ ضرورية من أجل التشريع للدولة، بيد أن القيام بهذا الواجب يقتضي أن يكون الإنسان قد تلقى تربية علمية وثقافية وتمكنت الفضيلة من التسلل إلى كينونته، وأصبح بذلك مواطنا على الاطلاق، وليس مواطنا مبدئيا كما هو الحال بالنسبة للسوقة الذين لا يعرفون حتى حقوقهم وبالأحرى الدفاع عن حقوق الآخرين، ومع ذلك الدفاع عن حقوق الآخرين، ومع ذلك يلتجئون إلى خدعة الناس في الأسواق ويستثمرونهم لكي يتجرون فيهم ويحصلون على الثروة بغية تحقيق اللذات الحسية، وهذه خطة سياسية فاسدة، لا يمكن أن تنتج إلا مجتمعا فاسدا.
هكذا يتبين أنه من السهل تفكيك بنية هذه السياسة الفاسدة، لأنها تستند على قاعدة حسية، لا تتطلب مجهودا عقليا كما هو الحال مع السياسة المدنية التي تعتمد على بنية برهانية يسندها العلم السياسي والفكر الفلسفي والعلوم الإنسانية.
ومن الطبيعي حسب كتاب السياسة لأرسطو أن: «الإنسان يولد وهو مسلح بسلاحي الفهم والفضيلة فيتهيأ له أن يتذرع بهما لمحاربة ما يناقضهما على الأخص، ولذلك إن خلا من الفضيلة تمادى في السفه والفظاظة «هؤلاء الذين يتمرغون في السفه والشراهة لا يفهمون ما أقول وما أنا بالصوت الذي يلائم هذه الاسماع، أينبغي علي أن أسد آذانهم ليتمرنوا على الإصغاء بعيونهم، وقد أدفعهم إلى الغروب في جمح الظلام، وربما أن الفجر سيتمكن من نشر تباشيره، لأن شمسا جديدة تنتظر الشروق حاملة معهما آمال التحرر من خفافيش الليل الذين لطخوا براءة السياسة وحولها إلى تجارة للمكر والخداع والتفاهة. لكن كيف يمكن التخلص من «السوقة» وتحرير السياسة باعتبارها أوفر الأعمال حظا من البراءة؟، بل كيف يمكن تأسيس مدننا على سياسة الحرية بواسطة الحكماء والفضلاء؟.
ومهما يكون من أمر فإن الأمل لم يمت بعد، على الرغم من أنه أصيب بمرض عضال، كاد أن يقضي عليه، ولولا تشبث بعض الفضلاء بمبادئهم وخوضهم صراعا شرسا مع «السوقة» لتم القضاء على الأمة بكاملها. ومن الحكمة أن نعترف بأن السياسة بقدر ما تنمي المجتمع بقدر ما تقضي عليه: «فميل الجميع إذن إلى الاجتماع المدني هو أمر طبيعي.
وأول من حققه كان علة أكبر خير. لأن المرء إذا اكتمل أمسى أفضل الحيوانات، وإذا ابتعد عن خطة العدل عدّ أحط العجماوات. والجور إذا تسلح بلغ غاية العنف» ذلك أن العدالة فضيلة اجتماعية، لأنها نظام المجتمع المدني: «وما العدالة إلى القضاء بالحق» بيد أن من ساء خلقهم أو كانوا ميالين إلى السوء، بدا جسدهم مسيطرا على النفس، وذلك في غالب الأحيان، لخسة ما طبعوا عليه، وانحرافهم عن سنة الطبيعة، لأن التدبير يبدأ أولا من سيادة النفس على الجسد، والعقل على الشهوة: «وفي هذه الأشياء، يتبين أن الطبيعة تقضي بأن تتسلط النفس على الجسد وأن تتسلط القوة المدركة والقوة العاقلة على الهوى والميل؛ وأن في ذلك فائدة للطرفين، ولكن إن تساوت فيهما الحقوق أو توليا السيادة على نقيض ما تفرض الطبيعة، عاد ذلك عليهما بالضر» فكيف يمكن لمن تعودوا على استعمال جسدهم كأفضل ما يصدر عنهم أن يدبروا مدننا، ويتحكموا في التشريع لها؟، ألا يبدو هذا الوضع أسمى مراتب الانحطاط؟.
والحال أن الفاضل من الفضلاء، كما أن الإنسان من الإنسان، والحيوان من الحيوان، والطبيعة تروم في الغالب تحقيق تلك الأمنية، ولكنها لا تستطيع تحقيقها دائما؟
كاتب مغربي
عن القدس العربي وباقتراح من الكاتب