يرتبط موضوع كتاب الناقد المغربي حسن المودن
"بلاغة الخطاب الإقناعي: نحو
تصور نسقي لبلاغة الخطاب"، الصادر حديثاً عن
دار "كنوز المعرفة" الأردنية، بما يجري في راهننا؛ إذ تبرز مقولة الإقناع
كأحد أبرز الإشكالات المعاصرة في عالم يعرف تقدّماً مهولاً في وسائل الاتصال والتواصل
والإعلام.
وفي الوقت الذي يدفع هذا التحوّل إلى مزيد من تكريس
الحوار والاختلاف والتعدّد، وإلى الانفتاح أكثر على ثقافة التواصل والإقناع، نرى عالماً
تتعدّد فيه الخطابات وتنزع نحو خطاب شمولي يكرّس أحادية الرؤى، ونزعةً فردانية ترى
في حقيقتها التفسير الوحيد للوجود.
يتجّه كتاب المودن إلى تقعيد هذا الحس والوعي الحاد
بالحاجة إلى ثقافة التواصل والإقناع، لأنها تشكّل إحدى البدائل الإنسانية لتجاوز ثقافة
العنف والتطرّف. ولعل تجديد الصلة بالإقناع ينطوي على إعادة الاعتبار للحوار كممارسة،
وكقيمة للاختلاف والتفاعل، ولعلها إحدى بدائل الانهيارات وأشكال العنف المميّز لعالم
اليوم.
تتّجه فلسفة "بلاغة الخطاب الإقناعي"
إلى توليد "عقلانية تداولية" مرتكزها الحوار وقيم التبادل، إذ يمكن التغيّر
وفق هذا المنحى، ومن هنا الدعوة المفتوحة إلى صيانة الخطاب الإقناعي وحصانته بـ
"تداولية كونية" تجعل كل خطاب إنساني يقوم على أسس قيمية أخلاقية.
غير أن كتاب المودن، وعلى مستوى المنهج والتأطير
النظري، يقوم على افتراض أن بلاغة الخطاب الإقناعي تتأسّس انطلاقاً من الحيوية التي
عادت إلى علم البلاغة لاعتبارات تتعلّق بالرهان على الاجتماعي، وأن تنظر البلاغة الجديدة
إلى اللغة على أنها خطاب، أي بوصفها شكلاً من أشكال الممارسة الاجتماعية، وأيضاً الرهان
على إعادة الاعتبار للبعد الحُججي من خلال إحيائه. أمّا الرهان الثالث، فيرتبط بالتوجّه
نحو مفهوم "جديد" نسقي للبلاغة، بما يفيد الانتقال إلى الشؤون الخارجية للخطاب
الأدبي، وتلك المنطقة البينية المعقّدة التي يتقاطع فيها التداولي والشعري.
ضمنياً، ينطلق بحث المودن من افتراض مركزي يقوم
على أن بلاغة الخطاب الإقناعي تتأسّس، في البلاغة العربية خصوصاً، على تصوّر متقدّم
قابل للتحيين وإعادة البناء في ضوء التطوّرات التي عرفتها علوم اللغة والبلاغة والخطاب
في عصرنا الحالي، وهو ما انتهت إليه خلاصات الكتاب الأساسية، منها ما ارتبط بالمكوّنات
الداخلية للنص، ومنها ما ارتبط بكفاية الإنتاج وكفاية الإنجاز والمرتبطة بالمتكلّم
الممارس للإقناع بواسطة الخطاب وحضور الجسد الحيوي والتفاعلات التي تحصل بين المتكلّم
ومخاطبه، إضافة إلى هوية النص اللفظي اللغوي وعدم انفصال النص عن مخاطبه ومقامه.
ينتهي الكتاب إلى تأكيد مقولة أن قوة البلاغة في
ارتباطها بالإقناع، بما يدفع في اتجاه النظر نحو البلاغة في معناها التنسيقي العام،
وإلى الدور الذي يمكن أن تلعبه شعرية الخطاب وشفويته في الإقناع والتأثير. كما يكشف
عن بعض ملامح هذا المفهوم النسقي للبلاغة، ويرصد بعض الشروط التي يقتضيها من منظور
البلاغة العربية، مستكشفاً المنطقة التي يتقاطع فيها التخييل والتداول.
سبق للجاحظ أن نبّه إلى أن الخطاب الإقناعي يقوم
على مبادئ أساسها أن الإقناع يعني التوجّه إلى العقل والعمل من أجل إفهام المخاطب،
وأن العقل ليس نشاطاً مطلقاً، والخطاب البليغ ليس خطاباً موحداً. من هنا تأتي أهمية
كتاب المودن في ترسيخه هذه الثقافة الحوارية المبنية على فلسفة الخطاب الإقناعي وتأكيد
ضرورته اليوم، في عصر انتفت فيه كل أساليب هذا الخطاب وتراجع فيه احترام العقل.