الشاعرالكبير
فاروق شوشة.. والاحتفاء بذكرى ميلاده الثمانين
بقلم
بكر إسماعيل الكوسوفي
خاص
فلقد
عرف الشعر العربي على امتداد تاريخه حركات تجديدية متنوعة بدأت منذ العصور الأولى
لتاريخ الأمة الإسلامية.
وعندما جاء العصر الحديث جاء ومعه
مناهج فكرية وفنية وسياسية واجتماعية وأدبية تكاد تكون مختلفة عن المناهج السابقة.
وهذه المناهج الحديثة قد واكبتها حركة
شعرية عرفت باسم(الشعر الحر)، هذا الشعر حاولت أن أتعرف عليه ممثلاً في رمز من
رموزه هو الشاعر فاروق شوشة.
من
مواليد محافظة دمياط سنة 1936م وتخرج من دار العلوم جامعة القاهرة سنة 1956م
ودبلوم كلية التربية جامعة عين شمس سنة 1957م.
والشاعر فاروق شوشة بحكم تكوينه
العلمي والثقافي وبحكم منهجه الفكري والشعري المعتدل وجدته من وجهة نظري نموذجاً
موضوعياً للإبداع الأدبي في العصر الحديث.
وحياة الشاعر منذ بدايتها حياة علمية
وثقافية حيث نشأ وترعرع في بيئة ثقافية تشهد لذلك سيرته الذاتية لمن طالعها
وقرأها.
ويلتحق
ذلك الشاعر الكبير العملاق بمراحل التعليم المختلفة، حتى وصل إلى كلية دار العلوم
جامعة القاهرة وينتمي إلى كليات أخرى فدرس علوماً عديدة كانت ذات أثر لا ينكر في
تجربته الشعرية عامة واللغوية خاصة.
والناظر في حياته يرى أنها هادئة
ومتزنة بعيدة عن المفاجآت والمنعطفات الحادة، وانعكس هذا على تجربته الشعرية،
فنجده ينحو نحو المحافظة الملتزمة، في الوقت الذي يجد فيه وفقاً لأصول وقواعد
ثابتة منبثقة عن أصول راسخة.
والشاعر
أو المبدع لا يولد عموماً مبدعاً ولكن يولد وبداخله ملكة واستعداد فطري يساعده على
تصوير ما يريده.
وهذه الملكة هى المكون الرئيسي لشخصية
المبدع، وتمثل العنصر الذاتي أو الذوقي للمبدع، وتشكل مع العنصر الموضوعي الشخصية
المبدعة في عمومها.
والعنصر الأخير يتكون من مجموع الصفات
والخصائص الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية التي يحيا في ظلالها الشاعر أو
المبدع.
وفاروق
شوشة كغيره من الشعراء الذين عاشوا حياتهم في ظلال بيئية وثقافية معينة، والراصد
لتلك الظلال يجد أنها خضعت لتأثيرات معينة من أهمها: المؤثرات الاجتماعية، ويعنى
بها: تلك الظروف والملابسات التي كونت شخصية الشاعر وانعكس أثرها على تجربته
الشعرية، وجاءت هذه المؤثرات لشاعرنا فاروق شوشة من عدة روافد هى البيئة الريفية
التي نشأ بها، والتي أثرت بعمق في طبع وجدانه بعالم الشعر وأجوائه السامرة،
والرافد الثاني والدته التي كانت عاملاً مساعداً وساهمت في انغماس الشاعر في
تجربته الشعرية، حيث كانت على درجة عليا من الثقافة والفكر والرافد الثالث قيمة
الحب وأثرها في مسيرة الشاعر الفنية، ثم يأتي العامل الرابع وهو الطبيعة وهذا
الرافد من أهم الروافد التي غذت قريحة الشاعر، وأشبعت وجدانه بالخيال والتأمل
والغناء ولا غرو لقد تفتحت عيناه على طبيعة موارة بالخصب والخضرة، و النماء فهو
ابن إقليم دمياط الذي يحتضن فرعاً من فرعي النيل يعرف بفرع دمياط.
أما
المؤثرات الفكرية فيقصد بها، تلك الممارسات والمكتبات الثقافية والشعورية التي
شكلت وجدان الشاعر الفكري وساهمت في الإيحاء برؤاه.
وهذا
المؤثر من أهم العناصر لأن مدلوله يمتد ليشمل العناصر أو المؤثرات الأخرى مثل:
الوعي الاجتماعي، أو السياسي أو الديني، وهناك عناصر متعددة كونت هذا المؤثر لدي
فاروق شوشة وتتلخص في القراءة والأساتذة وطبيعة العمل.
أما
المؤثرات الدينية فإنها تشكل الوجدان الديني لفاروق شوشة منذ نعومة أظفاره فنشأته
كان لها أثر كبير في تبلور حسه الديني إذ كانت أسرته تتميز بالتدين والصلاح، وكان
تعرف والده على بعض الشيوخ الصوفيين
تأكيداً لملامح هذا التدين.
هذا
ومن المؤثرات الأخرى قراءاته واهتماماته بالأدب الصوفي والشعراء الصوفيين وهو
اهتمام لم يتوقف عند حد القراءة والإطلاع بل تعداه إلى الدرس والتأليف فأصدر كتاب(
أحلي عشرين قصيدة حب في الحب الإلهي) جمع فيه قصائد متباينة لبعض الشعراء الصوفيين
وقدمهم من خلال شعرهم بمقدمة صافية تحت عنوان(الرحلة في بحار العشق)ووصف هذه
الرحلة بأنها: رحلة حب من طراز فريد نادر ، نتقدم من خلالها إلى ساحة عامرة وضيئة
تعتنى بالعديد من الأنغام والألحان التي أبدعها هؤلاء الشعراء الذين تغنوا بالحب
الإلهي عشقاً وهياماً وفناءً وذوباناً، وترك هذا الاهتمام أثره على وجدان ووعي
الشاعر، فاقتبس من أجوائهم وصورهم ومعاجمهم في شعره الصوفي، ومن أبرز هذه الاقتباسات قصيدة تحت عنوان(الرحلة في بحار
العشق) وهو نفس العنوان الذي قام له الشاعر لكتاب (أحلى عشرين قصيدة حب في الحب الإلهي) يقول الشاعر في
هذه القصيدة:
يا محبوبي
وحدي بعدك أعبر هذا الليل الموحش
أجتاز الفجر الكاذب هذا الوجه
الممرور من الدنيا
أعدو نحو شعاعة وعد من عينيك
وأنهل ما يسقط من فيض الرؤيا
فامنحنى بعض أمان حين أطير إليك
فنرى الصورة مشبعة بعبق الصوفيين،
وبرموز عالمهم وأدبهم الخاص الذي نجح الشعر في إضفائه على تجربته الصوفية، فألفاظ
مثل: محبوبي- أعبر هذا الليل- الممرور – فيض الرؤيا مقتبسة من المعجم الصوفي وغير
ذلك كثير.
وقد بدأت رحلة الشاعر مع نظم الشعر
منذ فترة بعيدة وتحديداً حين أخذت المرحلة الثانوية توشك على الانتهاء.
لقد ألف الشاعر في هذه السن المتقدمة
نسبياً مسرحية شعرية عنوانها(على مسرح التاريخ) ضمت هذه المسرحية بعض القصائد
العاطفية التي صاغها الشاعر في تلك الفترة استجابة لصوت العاطفة.
وبدأ الشاعر فاروق شوشة ينشر شعره
رسمياً حينما أصدر أول ديوان له والذي جاء تحت عنوان( إلى مسافرة) سنة 1966م.
بيد أنه يؤكد تجربته الحقيقية مع
الشعر بدأت قبل ذلك بحوالي عشر سنوات تقريباً عندما صاغ قصيدته (ضاع في الزحام)
التي يضمها ديوان(لؤلؤة في القلب) الذي صدر عام 1973م.
بعد ديوانه الأول أخذت الدواوين تثرى،
فأصدر ديوانه الثاني(العيون المحترقة) عام 1972م و (لؤلؤة في القلب) عام 1973م ثم
( في انتظار ما لا يجئ) عام 1979م
ثم(الدائرة المحكمة) عام 1983م.
ثم قام الشاعر بجمع هذه الدواوين
الخمسة في الأعمال الشعرية الكاملة التي صدرت عام 1985م (المجلد الأول).
ثم توالت بعد ذلك الأعمال الكاملة الدواوين
فأصدر ديوانه السادس (لغة من دم العاشقين)، عام 1986م ثم (يقول الدم العربي) عام
1988م وبعد أربع سنوات أصدر ديوانه الثامن(هئت لك) عام 1992م وأخيراً في بداية عام
1994 صدر ديوانه التاسع(سيدة الماء).
والمتأمل للمراحل الزمنية لإصدار هذه
الدواوين يجد أن هناك فترات ابتعدت فيها المدة الزمنية بين الديوان والآخر كما هو
الحال في الديوان الأول والثاني، إذا بلغت المسافة الزمنية ست سنوات ونفس الفترة
بين الديوان الثالث والرابع.
كما
أن هناك فترات تقاربت فيها المدة الزمنية حتى بلغت سنتين وأحياناً سنة واحدة، كما
في ديوان(يقول الدم العربي) و(لغة من دم العاشقين)، وأيضا بين ديواني(هئت
لك)و(سيدة الماء)، فقد كان بين الديوان الأول والثاني سنتان فقط، وتقلصت هذه المدة
إلى النصف بين الديوان الثاني والثالث إلى سنة واحدة.
وهذا
يشير إلى أن الشاعر فاروق شوشة لا يتكلف الشعر، ولا يتصنعه بل هو يترك للقصيدة
مجالها وللتجربة فرصة التبلور والإفضاء الذاتي.
هذا
من ناحية ومن ناحية أخرى يعود هذا العامل إلى طبيعة عمل الشاعر، وما يتكلفه من
مسئوليات تقتضيها الوظيفة التي يقوم بها وهو نفسه لا ينفي ذلك بل يثبته عندما نص
على ذلك في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة (المجلد الأول) ولكن في النهاية أخلص
الشاعر للشعر، فالنتاج الشعري لديه أصبح يأخذ صورة شبه منظمة ومستمرة.
وقد
اكتنفت التجربة الشعرية عند شاعرنا فاروق شوشة إطاران:
الإطار
الأول: ينبع من حسن وطني وسياسي خالص عالج الشاعر من خلال هذا الحس،الموقف الذاتي،
والموضوعي للتجربة،وجاءت هذه التجربة ممتدة من الديوان الأول حتى الثالث، لتتوارى
خلف بعض الرؤى التي لا تنفصل عن هذا الإطار في الديوان الرابع والخامس والسادس،
لتأخذ مكانتها بصورة أقوى وأوضح في ديوانه السابع (يقول الدم العربي).
في هذه الدواوين صور الشاعر موقفه من
مصر والوطن العربي، والتحم مع الأحداث التي تأثر بها فعنى لأفراحها، وهدهد جراحها.
وعلى
كل فالشاعر يتضح شعوره القوى الذي يبعث ويحفز على كل ما هو نبيل وجميل حتى يصبح في
المكانة اللائقة به ويأخذ طريقه نحو التقدم والازدهار.
الإطار الثاني: وهو أشمل وأعم من
الإطار الأول، يصور فيه الشاعر الإنسان وما يقع على عاتقه من غربة وخوف، فهو يمثل
لبنة أساسية في تجربته الشعرية العامة.
ويأتي الواقع والإنسان مكونين الهم
الشعري الأول الذي حاول الشاعر الاقتراب منه وتصويره وكلف بإبراز القضايا الكونية
التي تتشابك مع الواقع الإنساني وهو معنى بإبراز وجود الإنسان، وبيان موقفه تجاه
الأشياء وقد صاغ الشاعر هذه الرؤى في دواوين عديدة من شعره.
ولا
يذهب المتأمل بعيداً إذا ما صرح بأن قضية الإنسان عند فاروق شوشة تأتي متزامنة مع
باقي القضايا الاجتماعية الأخرى، التي يتأثر بها الإنسان إيجاباً أو سلباً.
ويتضح موقفه من الإنسان بالنظر إلى
هذه القضايا وحقيقة اتصاله بها على الصعيدين الحسى والمعنوي، من خلال مفاهيم مثل
الحب، والخير والحق… وغير ذلك.
وهذا الموقف قد صبغ الرؤيا العامة
للشاعر، وتجلى أظهر ما يكون في ديوان(سيدة الماء) فأغلب المواقف الشعرية فيه جاءت
مصورة علاقة الإنسان بالطبيعة والكون كله، ويحدو هذه المواقف موقف التزامي بحت،
وتشيع في صورة سوداوية قاتمة، حتى الحلم الذي يوحي بالأمن، ويمثل عنصراً من عناصر
الجمال يصير هنا عاملاً من عوامل الاستلاب والقهر، ويقول الشاعر في قصيدة(رحيل
النوارس) متسائلاً:
أم هو الحلم
يخلع بعض الأمان من القلب
بعض السكون.
وإطلالة سريعة على قصائد الديوان تؤيد
هذا الرأى ففي قصيدة(النيل) تتغير القيم والعادات وينسحب المثال من الواقع تاركاً
للقبح مكانه، وفي قصيدة(كرة النار)، التي يهديها الشاعر لصديقه الشاعر محمد
إبراهيم أبو سنة تظهر نزعة الهروب والخوف وفي قصيدة الاسكندرية يلمح الشاعر بوادر
مؤامرة لاغتيال الجمال وفي قصيدة(إنها تمطر صيفاً) تلوح من الصور روح الجهامة
ويخايل اليأس أعماق الشاعر.
ولكن يبقى للجمال والحب والحلم بالرغم
من هذا اليأس القيمة والمثال والأمل الذي يرافقه في درب الواقع المرير، والمفارقة
تأتي من هذا الحب ليس بعيداً عن الإنسان ولكنه يكمن فيه يخاطب الشاعر الإنسان
فيقول له:
عد إلى نقطة
تخيم في البدء
عهود طليقة من إسار الوعي
دنيا من الغرور الذي يعمى
و من الخصائص التي ميزت تجربة فاروق
شوشة الشعرية توظيفه للأسطورة والرمز بجميع أنواعه، ومما يجدر ذكره أن الشاعر في
توظيفه لهذا اللون، يمزج بين الموقف والأسطورة أو الرمز مزجاً تصير من خلاله
الأسطورة عامل كشف وبوح معرفي وشعوري فهذا الملمح يساير التجربة وينغمس في
عناصرها.
وفي توظيفه للغة والصورة الشعرية
والإيقاع الموسيقي كان متفهماً لطبيعة التجربة والعوامل التي تحقق لها أقصى درجات
الإيحاء، فكانت هذه العوامل عاملاً مساعداً من عوامل التوصيل الشعري.
والشاعر فاروق شوشة من بداياته
الأدبية الأولى يسلك طريقاً يميل إلى الاتزان الفكري المعتدل، واكتسب ذلك من
تربيته التي كانت أميل إلى المحافظة والالتزام أكثر من التحرر والانطلاق.
وفاروق شوشة في شعره له منهج فكري
وشعوري واضح، فهو يميل إلى التجديد المنبثق من قواعد وأصول ثابتة وراسخة مستقاة من
التراث العربي ولا أدل على ذلك من مزجه في تجربته العامة بين اللونين المشهورين في
الشعر العربي، وهو الشعر العمودي والتفعيلة وجاء هذا المزج على مستوى القصائد، إذ
كان يجمع في القصيدة الواحدة بين اللونين كما جاء على مستوى الدواوين فلم يخل أى
ديوان من دواونيه الثمانية الأولى، من قصيدتين أو ثلاث من الشعر العمودي الذي يأتي
على وزن واحد وقافية واحدة من أول بيت إلى آخر بيت في القصيدة ولم يتخل عن هذا
الحوار أو ذلك المزج إلا في دواونيه الأخيرة.
وكان له موقفه من الوطن، ومن المدينة،
ومن الشعر ومن الإنسان ومن الزمن وهى مواقف لم تعرف التطرف ولا الجموح بل كان
الهدوء والمعالجة الشعرية العميقة هما الميزان لتلك المواقف.
وفي خصائص شعره الفنية وضحت ملكة
فاروق شوشة العربية إذا كان ينزع عن حس عربي وفني خالص، ولقد ساعده على ذلك كثرة
إطلاعه على التراث العربي وتذوقه له فجاءت لغته عربية شرقية الملامح تنهل من معين
عربي صرف، وصب هذه اللغة في قالب تركيبي وبياني يخضع للقواعد العربية.
كما كانت صوره الشعرية محملة بلفحات
عصرية جميلة، توظف التراث والبلاغة العربية في قالب عصري يتناغم مع هذا التراث
ويكون الاثنان عنده منهجاً واحداً وموقفاً فريداً ولقد وظف الشاعر هذا التراث ليجعل
منه أداة من أدوات التوصيل الشعري إيماناً منه بقيمة هذا التراث وبقيمة دوره في
الحياة التي نحياها على أرض الواقع.
وواءم الشاعر الشعر في موسيقاه بين
الموسيقى ذات التفعيلات المركبة وبين الموسيقى الخفيفة، وكان يمزج بين الاثنين في
القصيدة الواحدة، فكان يأتي بموسيقى بحر الطويل وموسيقى بحر المتدارك في القصيدة
الواحدة كل في فقرة تختلف عن الأخرى، ولم يمزج الشاعر بين المتقارب والمتدارك إلا
في ديوان(سيدة الماء) ووقت لاقتناص الوقت، وهما مزج الشاعر بين موسيقى البحرين وهو
أسلوب لم يؤثر عنه في دواوينه الثمانية الأولى.
فتلك
رحلة موجزة في الرحاب الأدبية والشعرية لشاعر انصهرت في أعماقه اللغة العربية
روحاً وإحساساً فصارت تخوماً وأبعاداً فنية لها دلالات فكرية ونفسية وأدبية.
إنها رحلة لزمن الحلم الجميل الذي يفئ
على الإنسان بالحب والسمو والطهر والشفافية فهو زمن يعيش في الشعر، ويحيا في
العوالم الروحية وينشد المثالية الأبدية.
إن الشاعر الكبير فاروق شوشة شاعر
يحاول العودة بالقصيدة الشعرية إلى صياغة جديدة للعالم، وبالشعر إلى هيبته وسطوته،
ولذلك يعد مثالاً للأدب والشعر الجميل.