أعجب ممن يستبدلون الأقلام بالأظافر حتى لا أقول البراثن و يتَّهمَني أحدٌ لا أسميه كي لا ينتقل من النكرة إلى المعرفة، بأني أصفه بالحيوانية و هو منها براءٌ براءة الذئب من
ما جدوى الكتابة سواء اتخذت شكلا أو مُشكلا إعلاميا أو أي شكل تعبيري أدبي، إذا كان من يعقرها بقدمه بَدَلَ قلمه لا يهمه أن يترك جيفة كلمته الموبوءة بالفضيحة طريحة شارع الرأي العام، لتزكمنا برائحتها الكريهة، فنبدأ في شم بعضنا البعض بحثا عن مصدرها، و التراشق بالاتهامات الباطلة، و تتسع الرائحة المنبعثة من جيفة هذه الكلمة غير المسؤولة و التي ولدت من ضمير عديم الحياة مقتولة، لتعم كل البيوت، لا لشيء إلا لتزيد بعض الجرائد مع مبيعاتها الفتنة اندلاعا في البلاد، هل هذا أقصى ما يمكننا أن نتعلمه من الأدب، أن نطوع الكتابة سلاحا للقذف و السب و النبش في المحصنات و التباري في من يستطيع أن يصبح سفيها فوق العادة و بتكشيرة مفتوحة في إطلاق أنذل الكلمات و أحطها بكرامة الإنسان، بئس المنافسة في مضمار كلمة لا ينال بها الكاتب مجدا و شرفا، بل لائحة طويلة من الضحايا، منهم المطرود من عمله، و المُطلَّق من زوجته ، و الداخل إلى السجن لأنه لم يدخل سوق رأسه، والمعوق في نفسيته، و المستقيل و المنتحر و المضطهد الخاوي للبلاد، و المجنون، و هلم قبرا في مقبرة تبقى مفتوحة لتستقبل وافدين جددا من الموتى ضحايا الكلمة، يوميا طيلة النهار ما بقيت بعض جرائد العهر تتسكع في الشوارع تحسب نفسها في السوق و هي تُباع فقط لأنها عرَّت عن نصفها الأسفل للنخاسين من صيادي الجنس والإثارة..!
ما هكذا تُوَرَّدُ الكلمة و لو لم تكن إبِلاً يا زيدُ أو عمرُ أو أيّاً من تكون، لماذا بَدَل أن تسقي الكلمة دواءً طيِّبا يشفينا جميعا من واقع عقيم و مريض، تحقنها سما لتقتل في كل من يقرأها حتى الرغبة في الإستمرار في الحياة فكأنك بالكلمة المسمومة قتلت الناس جميعا..!
و أعجب أن السواد الأعتم للناس لا يقبلون على قراءة إلا أنكر الأخبار و لو لم تصدر عن حمار لنسميها نهيقا، من قال إننا نعاني من أزمة القراءة و بعض الجميع يجد ضالته أو لذته السادية في عناوين من قبيل أو قبيلة الخيانات الزوجية و المطاردات البوليسية و الفضائح التي لا تخطر على حسبان لبعض رجالات السياسة و اغتصاب التلاميذ ذكورا و إناثا في مؤسسات تعليمية أحرى أن تُزوَّد بالكاميرات والحراس لمراقبة الشطط الأخلاقي. يا إلهي ما كل هذا (الخليع) الذي عِوض أن نأكل وجبته الشهية المعروفة ببلدنا، صرنا نأكله حشو كلام في أنفسنا، من أفواه صحف الخريف، فلا نكاد ننتهي من قراءة أو أكل هذه السلسلة الهيتشكوكية من أطباق الخليع حتى ينتابنا مغصٌ شديد في البطون مبعثه الخوف و الوساوس و فقدان الثقة في المحيط ، فلا نعرف هل نحن في بلد الأمن و الأمان أم في غابة صار وحيشها من الإنسان، فلا يهدأ بال القارىء الذي كان يغطس بوجهه في بركة دم آسنة لإحدى هذه الصحف، حتى يطويها و يُطوِّحها بوجوم بعيدا بأحد كراسي المقهى، و كأنه و هو يتنفس الصعداء يضع بينه و بينها مسافة تجعله يستعيد نفسه من كابوس ليس في حقيقة كل أخباره الزائفة إلا حلما ينتهي باليقظة؛ هل حقا هذا واقعنا أم أصبح من ضرورات الترويج الإعلامي، صناعة الكذبة بإتقان كفيل بأن يجعل صاحبها يصدقها قبل النشر لتنطلي على الجميع؛ هكذا لوثوا قدسية الكلمة التي نزلت من السماء قرآنا و هِمنا حبا في جمالها مع أجمل القصائد من معلقات الجاهلية حتى جداريات محمود درويش، لم نعد نُصدق الكلمة التي لا تكاد تخرج من فمنا حتى تأخذ في واقعنا المتحول معنى غير الذي نضمر معانيه، بل الأدهى أن تتحدث و تسمع حديثك ينطقه آخرون بأكثر من لسان في صحف متعددة، و ما على المرء إلا التفكير بجدية في أمرين أحلاهما مُرُّ؛ أن تضع لسانك حبيس فمك فلا تتكلم إلا خرساً، أو تستأصله و ترميه للكلاب ينبحون به الكلام الذي يشاؤون، و بذلك تكسب أجر الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس ما لم تنفجر و يصفوك بعبوة غاز..!
(افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" لعدد يومه الخميس 16 مارس 2017)