في سنة 1840 وُقّعت اتفاقية لندن بين أربع دول استعمارية
(هي الإمبراطورية الروسية وبريطانيا وبروسيا والنمسا من جانب، والدولة العثمانية من
جانب آخر) لرسم
الحدود المصرية. وفي عام 1845 رسمت فرنسا -عبر "اتفاقية لالة مغنية"-
الحدود الجزائرية المغربية، واعترفت الاتفاقية بحق فرنسا في ترسيم الحدود المغاربية
عموما.
وبين عاميْ 1920-1921 أصدر قائد الجيوش الفرنسية
في الشرق المفوّض السامي هنري غورو ما يسمى "مراسيم التقسيم" التي بموجبها
قُسّمت منطقة الشام الكبرى التاريخية إلى مستعمرات متفرّقة.
وأصبحت هذه المستعمرات -فيما بعد- "دولاً"
تحت الانتداب بحجّة تبناها غورو أمام الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب) وقال
فيها إن "هذه المكونات غير متمازجة مع بعضها البعض"، ويقصد بذلك تلك المكوّنات
التي تعايشت لأكثر من 1400 عام مع بعضها البعض!
أمّا في سنة 1922 فقد أخرج السّير البريطاني بيرسي
كوكس قلمه الأحمر -كما يقول ديكسون في كتابه "الكويت وجاراتها"- ليخطّ به
الحدود بين العراق والكويت والسعودية.
إن ما سبق من اتفاقيات مؤرّخة وحقائق تاريخية ما
هي إلا نموذج من الأقاليم العربية المختلفة مثالا لا حصرا، وتوضّح بما لا شكّ فيه الخلفيات
التاريخية لنشوء الكيانات العربية وفق إرادة القوى الاستعمارية المسيطرة بشكل مباشر
آنذاك، والتي أصبحت فيما بعد -ووفق إرادة نفس المستعمر واعترافه- "دولاً"
منحها المستعمر صفة "المستقلّة" عنه.
في كتابه "الدولة الخرائطية: الخرائط والأقاليم
وجذور السيادة" يقول جوردن برانش: "إن صانعي الخرائط يُعدّون خرائط تترجم
أفكارهم عن كيفيّة تنظيم العالم". وهذا ما تمّ فعلا وطبّقه المستعمر في وطننا
العربي؛ فالخرائط التي تقسّم عالمنا العربي إلى دول إنما رُسمت بيد من احتل المنطقة،
وأخضعها لتصوراته وأفكاره ورؤيته لهذه المنطقة ومصالحه فيها.
إن الناظر لواقع منطقتنا العربية يرى بكل وضوح أثر
التقسيم والتوزيع الخرائطي لوطننا العربي على أُسُس لم تكن ناتجه يوما، ولا عاكسة لتصورات
شعوب المنطقة عن نفسها ولا لتطلعاتها وأهدافها ومصالحها، بل كانت على العكس من ذلك
تماما.
ولا يزال قلم التقسيم وإعادة التشكيل للمنطقة في
يد نفس المستعمر السابق، ومرة أخرى ليس لشعوب المنطقة العربية أيّ حول ولا قوة تجاه
تلك الخرائط المعلنة، أو خطوطها الأولى على الأرض في العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان
وغيرها.
ويثبت ذلك أن النظام العربي المسيطر على إرادة شعوب
المنطقة عاجز تمام العجز عن منع أي خطة من خطط التقسيم، وذلك لسبب بسيط وبديهي وهو
أن هذا النظام العربي يستمد شرعية وجوده السياسي من تلك التقسيمات واليد التي باشرت
التقسيم أصلا.
لقد حرص 22 نظاما عربيا على إبقاء الحدود المرسومة
من المستعمر على حالها التي تسلّمها منه، وظلت رعايةُ النظام العالمي لهذه الحدود
-بإبقائها على حالها ومنع أي تغيير حقيقي فيها- مستمرةً طوال الوقت وما زالت قائمة.
أمّا المحاولات "الوحدوية" أو "الاتحادية"
التي لم تنل موافقة المستعمر الرّاسم لخرائط المنطقة فقد فشلت مثل "مشروع الوحدة
بين مصر وسوريا"، أو لم تستكمل اتحادها وبقيت شعارات أكثر من كونها مشاريع حقيقية،
كحال "دول مجلس التعاون الخليجي" أو "الاتحاد المغاربي".
أمّا في الجانب الشعبي الجماهيري فقد رُفعت شعارات
الوحدة، وتبنّاها عدد من الأيديولوجيات والاتجاهات الفكرية العربية كان أبرزها الحركة
القومية العربية، لكن هذه الحركات وقعت في نفس أخطاء النظام العربي الرسمي أثناء كونها
حركة وعند وصولها للسلطة في أكثر من بلد عربي.
وكان من أهم تلك الأخطاء أنها اعتمدت الخرائط الاستعمارية
نفسها منطلقا لتصوّرها نحو تغيير الواقع، ففي حقيقة الأمر -ووفق الممارسة العملية-
التزمت الحركة القومي بالإطار الحدودي للدول الناشئة وفق معايير المستعمر، وتعاملت
مع الواقع من خلال تلك المعايير.
وكان هذا التعامل "الواقعي" من وجهة نظر
الحركة القومية معتمدا على خطأ رئيسي آخر تمثل في الأداة التي تعاملوا بها مع هذا الواقع
وفق تصوّرهم، ألا وهي النظام السياسي العربي نفسه الذي هو عبارة عن نظام تم تسليم السلطة
له مباشرة من قبل المستعمر ونال بركته وموافقته.
أو هو نظام أعلن "دعائيا" محاربة الاستعمار
وسيطرته لكنه عمليا مارس السيطرة والاستبداد على شعبه وافتأت على حقه وإرادته الحرة،
وبالتالي فإن هذين الخطأين من قبل الحركة القومية العربية كانا كفيلين بإحباط أي محاولة
لتغيير خريطة المنطقة لتعكس الإرادة الحرة لأبنائها.
ولم تكن الحركة الإسلامية بأطيافها بعيدة عن أخطاء
الحركة القومية العربية، فقد تراوحت أطروحة الحركات الإسلامية للواقع الخرائطي للوطن
العربي بين التعويم والهلامية التي هي أقرب إلى الشعارات غير المعتبرة للحدود السياسية،
واقترابها من حلم يحاكي فترات تاريخية سابقة لاغية للحدود ليس بين الأمة العربية فقط
بل بين العالم الإسلامي كلّه، حتى تغنّت الحركة الإسلامية بحدودها الممتدة من الصين
إلى إسبانيا!
أو من خلال أطروحة التكيّف مع الواقع العربي ومحاولة
اختراقه من داخله عبر الوصول للسلطة الوارثة للاستعمار واستنقاذها منه ضمن إطار الدولة
المرسومة من قبله، ثم بعد ذلك -وفي حال النجاح- السعي لتغيير ذلك الواقع.
لكن هذه الأطروحة -التي ربّما يحلو للإسلاميين وصفها
بالواقعية السياسية (البرغماتية)- ما لبثت أن تحولت جزءا من الواقع وشريكا فيه، بل
انحازت الحركة الإسلامية في العالم العربي للدولة الوطنية وخريطتها وحدودها ومؤسساتها
وقواعدها، وبدأت تطوّر أدبياتها ومقولاتها وفق هذا الانحياز الجديد.
لقد وضعت الحركتان القومية العربية والإسلامية نفسيهما
ضمن الإطار الذي أريد لهما أن تبقيا فيه ولا تتجاوزانه، فالحركتان -وما يدور في فلكهما
من حركات- وُلدتا في عالم صممه ووضع قواعده وحدوده ورسم خرائطه طرف خارج عن الأمة،
غير معبّر عن حضارتها وثقافتها ومكوناتها، ولا هو حريص على تطلعاتها ومصالحها.
بل هو طرف يرى نفسه على خلاف بل عداوة في أحيان
كثيرة مع دور هذه الأمة العربية ومهمتها ورسالتها، لقد وقعت تلك الحركات في ما قاله
براين هارلي من أن "الخرائط من خلال سلطتها الداخلية أو منطقها الضمني فإنّها
تتحكم فينا".
الاستثناء الوحيد في الحالة العربية المتمرّدة على
الحدود الاستعمارية -أو "الوطنية" بعبارة أخرى- كان ما صاحب الثورة العربية
التي انطلقت يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في تونس، هذه الثورة لم تنتظر نظاما عربيا،
ولم تركب على ظهر أيديولوجيا تقليدية، ولم تأخذ اعترافا من النظام العالمي لكي تعبر
حدود تونس، وفي أشهر قليلة حطت رحالها في كل البلاد العربية بشكل أو بآخر.
لقد شعر العرب لأول مرّة منذ أمد بعيد بالهمّ المشترك
وبأن كلا منهم معني بالآخر، لقد كان الشباب العربي في المشرق يتابع كل تحرّك لمظاهرة
في أحد أزقّة سيدي بوزيد بتونس، أو حيّ من أحياء صنعاء، أو ساحة من ساحات العراق، أو
شارع من شوارع الكويت.
"الاستثناء الوحيد في الحالة العربية المتمرّدة
على الحدود الاستعمارية -أو "الوطنية" بعبارة أخرى- كان ما صاحب الثورة العربية
التي انطلقت يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 في تونس، هذه الثورة لم تنتظر نظاما عربيا،
ولم تركب على ظهر أيديولوجيا تقليدية، ولم تأخذ اعترافا من النظام العالمي "
لقد كان الشعور العربي -المقتصر على المنطقة العربية
التي لم يتعدّها إلى مالي القريبة أو تشاد، ولم يتجاوزها إلى إيران أو تركيا أو ماليزيا-
لافتا بحق، إذ كيف استطاع هذا الحراك الثوري أن يعمّ هذه المساحة من الأرض دون غيرها
من البلاد الملاصقة؟! ما المحدد في ذهن الإنسان العربي الذي سمح له بأن يملأ هذا الفضاء
المكاني فقط دون غيره؟!
لقد كانت الثورة العربية تمثّل تهديدا معرفيا عميقا
تمت محاصرته من قبل الثورة المضادة، حتى لا يتحوّل ذلك الإدراك المعرفي للأمة العربية
المتجاوز للحدود "الوطنية" إلى أطروحات عملية تطبيقية، تنتج عنها تصرّفات
مادية جدّية تغيّر خريطة المنطقة وفق إرادة الأمة التي تقطنها.
فالخريطة السياسية لدولة ما أو أي كيان سياسي ليست
مجرد خطوط على ورق، بل هي تعبير عن إدراك معرفي للمجموعة البشرية التي تحدد تلك الحدود
وترسمها وفق ذلك الإدراك، وهي مستعدة للقتال والتضحية ليس من أجل مساحات من الأرض ربما
ليست لها أي قيمة إستراتيجية أو مادية، بل لأن تلك المساحة -التي أحيانا لا تتجاوز
بضعة أمتار- تحمل قيمة معنوية كبرى أسبغها عليها ذلك الإدراك المعرفي العميق لأولئك
البشر.
من هذه الزاوية المعرفية العميقة في وجدان العرب
كأمّة تأتي فكرة ضرورة إعادة النظر في الخريطة العربية، وإعادة رسمها بما يعبر عن المكوّن
المعرفي للأمة العربية وبما يخدم تطلعاتها ويحقق طموحها.
فلم يعد من الممكن ولا المقبول التزام العرب بحدود
لم يكن لهم رأي ولا قرار في رسمها، وعلى العالم ألا ينتظر من أمة عريقة كأمة العرب
-التي تحمل رسالة حضارية سامية هي الإسلام- أن تبقى في حالة خداع للنفس بواقع لم تكن
يوما شريكا في رسمه.
ويبقى هذا المنطلق النظري لمسألة الحدود السياسية
والخرائط المرسومة لنا كأمة لنوضع فيها محتاجا إلى مزيد عمل حتى يصبح مطلبا للأمة كاملة
في مشرقها ومغربها، كما يبقى العائق السياسي أمام الأمة وتطلعاتها حاضرا وحارسا لعهدة
المستعمر وخرائطه.
ولذلك لا بد من أن يؤسَّس لخطاب استقلال عربي جديد
يكون من ضمن مقولاته "خريطة عربية جديدة"، وما عدا ذلك هو واقع ننظر له كقيد
يجب كسره لا تكريسه.
المصدر : الجزيرة