لم يعد السؤال عَمّن قارف جريمة خان شيخون مُهماً،
وليس ثمة من جدوى للتحقيق الدولي، المهني والنزيه في ملابسات الجريمة ... الجريمة وقعت
وكذلك العقاب،
وسوريا دخلت مرحلة جديدة من أزمتها الممتدة لأزيد من ست سنوات، عنوانها
الرئيس “الرقص على حافة الهاوية دون الانزلاق إلى قعرها”.
الضربة الصاروخية الأمريكية التكتيكية، كانت متوقعة،
بل ومرجحة لسببين اثنين: الأول؛ يتصل بشخصية الرئيس دونالد ترامب، الذي سعي ويسعى في
بناء صورة لنفسه، بوصفه “الرئيس الأقوى لأمريكا الأعظم”، ومن تتبع تصريحات الرجل بعد
حادثة خان شيخون المروّعة، يرى أن الاتهامات التي وجهها لسلفه باراك أوباما الضعيف
والمتردد، أكثر بكثير من الاتهامات التي وجهها للأسد شخصياً، وما كان لرئيس مسكون بهذه
الهواجس، أن يدع هذه الكارثة تمر، من دون إظهار ملامح قوته وصرامة عظمته.
أما السبب الثاني؛ فيتعلق برغبة الإدارة في إعادة
الاعتبار لدورها ونفوذها في سوريا والإقليم والعالم، فكانت جريمة خان شيخون الكيماوية،
مناسبة لتوجيه جملة من الرسائل دفعة واحدة، للأصدقاء والأعداء على حد سواء، رسائل لإيران
وروسيا، ومن ورائهما كوريا الشمالية، مفعمة فإمارات القوة والتصميم ... ورسائل للحلفاء
والأصدقاء الذين توافدوا لزيارة واشنطن لسبر أغوار سيدها الجديد، قبل أن تجتاحهم موجة
عالية من المعنويات المرتفعة صبيحة أمس الجمعة على وقع انفجارات صواريخ كروز التي ضربت
مطار الشعيرات شرق حمص.
لم يكن ترامب وإدارته، بحاجة للتحقق والتحقيق في
الجريمة، أمر كهذا قد يستغرق أياماً وأسابيع وأشهر، وقد يصل إلى نتيجة وقد لا يصل،
ومع كل يمر على إجراءات التحقيق البيروقراطية، سيكون الرجل قد فقد جزءاً من صورته وهيبته،
وستكون صورته كزعيم يخضع لابتزاز الكرملين، ويداهن القيصر – لأسباب مفهومة وأخرى غير
مفهومة – قد تكرست في الداخل الأمريكي، وأمعنت في “نزع الشرعية” عن رئاسته وإدارته
... قرار ترامب بتوجيه ضربة عسكرية في سوريا، ألحق أفدح الضرر بصورة ومكانة وتأثير
خصومه ومناوئيه في الداخل الأمريكي، وهذا هدف لا يسمو عليه أي هدف آخر.
بخلاف حملات التهويل والمبالغة التي تصدر عن أفرقاء
الحرب في سوريا وعليها، فليس من المتوقع أن تتطور الضربة الصاروخية الأمريكية إلى مواجهة
بين روسيا والولايات المتحدة، كما أنه من المستبعد أن تحدث تبدلاً جوهرياً في استراتيجية
واشنطن حيال سوريا، ستظل الحرب على داعش والإرهاب، هي الأولوية الأولى، وسيظل خيار
الحل السياسي للأزمة السورية، هو الخيار الأول لواشنطن، وسيظل البحث عن فرص تعاون،
وإن بالحدود الدنيا مع روسيا، هو الخيار المحبذ للطرفين، لأن بديله ببساطة، هو الصدام
المرفوض والممنوع.
ومن يتتبع بعض الكلمات المبثوثة في ثنايا التصريحات
العنيفة المتبادلة بين موسكو وواشنطن، ير أنها تبقي الباب مفتوحاً لاستئناف التعاون
وتفادي الصدام والعودة للتفاوض والحوار ... لكن المؤكد بعد حادثة خان شيخون، أن واشنطن
ستكون أكثر حماسة لفكرة المناطق الآمنة في سوريا، وستكون أكثر تشدداً فيما خص مصير
الرئيس الأسد ودوره في مستقبل سوريا، بعد أن كانت أطلقت ما يكفي من مؤشرات، بأنها على
استعداد لإعادة تأهيله، أو على الأقل، ترك مصيره ليقرره الشعب السوري (على المدى البعيد)
على حد تعبير ريكستيلرسون.
والأرجح أن انتعاش خصوم النظام السوري في عواصم
المنطقة والإقليم، وعودتهم الكثيفة للإدلاء بدلائهم القديمة، لن تجعل مهمة استئناف
مساري أستانا وجنيف أمراً يسيراً، وقد تحتاج العملية السياسية في سوريا، لإعادة صياغة
من جديد، في ضوء الإحساس بنشوة القوة التي تجتاح واشنطن وحلفاءها في الإقليم، واستتباعاً
فصائل المعارضة المحسوبة والموزعة عليها.
والأرجح كذلك، أن مبالغات “محور المقاومة والممانعة”
حول آفاق ردود الأفعال الروسية وصرامتها المفترضة في مواجهة الغطرسة الأمريكية، لا
تعادلها من حيث خوائها و “لا واقعيتها” سوى رهانات المعسكر الآخر على “الروح الجديدة”
في السياسة الأمريكية في المنطقة، بل واعتقادهم الساذج بأن الضربة الصاروخية على مطار
الشعيرات، تصلح “بروفة” لما يمكن أن تكون عليه سياسات واشنطن وإجراءاتها حيال إيران
وكوريا الشمالية، أو حتى حيال موسكو ... فلا روسيا مستعدة للمجازفة بأكثر مما ينبغي
دفاعاً عن النظام في دمشق، ولا واشنطن بصدد التورط في حروب، تعرف أنها قد تسجل نجاحات
كبرى في بداياتها، لكنها تعرف أيضاً أنها لن تكون “من يضحك أخيراً”، بدلالة دروس الحربين
في أفغانستان والعراق... لا روسيا مستعدة لمجاراة حلفائها، ولا واشنطن بهذا الوارد.
والخلاصة أننا أمام “تكتيك عسكري” أمريكي في سياق
“إستراتيجية سياسية” تتطلع لعقد التسويات وإبرام الصفقات... فلدى هذه الإدارة ما يكفي
من أجندات ثقيلة في الداخل والخارج، ودونالد ترامب توّاق للوفاء ببعض وعوده الانتخابية
في الداخل، وهو يعرف أن أية “انتصارات” في السياسة الخارجية لا تغني عن الإنجازات المنتظرة
في الداخل ... ولديه في الخارج ما يكفي من تحديات تهب عليه من البحر الأصفر ومحيطه
الحافل بالتحديات الاقتصادية والأمنية والعسكرية، تغنيه عن مزيد من التورط في الرمال
المتحركة لشرق المتوسط.