يصعب حقيقة بدون
دراسات سوسيولوجية،قائمة على بيانات الوثائق التحليلية والدراسات الميدانية،صياغة
رؤية تتسم بقدر من الموضوعية والنزاهة،بخصوص
معطيات حياتنا الفكرية أو على الأقل
مرتكزاتها وموجهاتها المعرفية والقيمية،ماضيا وحاضرا،ثم استشراف نوعية المستقبل من
خلالهما.
إذن ، ستبقى الأحكام نسبية ،اللهم
سمات الإطار العام،الذي تتوالد و تتكرس، داخل بنياته، مسارات تقاليد حياتنا
الفكرية والثقافية المغربية،وهي لا تنزاح كما تجلى ويتجلى عن :
*الرهان على
الثقافي فقط كآلية ظرفية لحسم الصراع السياسي الضاري،طيلة عقود بين
النظام والنخبة،مما أدى إلى تسييس الثقافة بشكل انتهازي يخدم مصلحة هذا الطرف أو
ذاك.
*انتفاء مشروع
ثقافي تاريخي سواء لدى هذا الطرف أو ذاك،وما يقتضيه الأمر طبعا من ثورة فكرية.
*إخضاع الممارسة الفكرية فقط لمحددات وتعليلات ردود الفعل
الظرفية.
*التطور الكوني نحو منظومة العولمة، المباغت
لنا طبعا، وانعدام استراتجيات محلية لدى كل الأطراف من أجل الفهم والاستيعاب
والتأويل وتقديم أجوبة مقنعة للأجيال الحالية، تصهر وفق جدليات ميكروفيزيائية
مختلف المفاهيم، دون مفارقات سوريالية كالتي نعيشها اليوم :الأنا، الآخر، الهوية، التراث، التحديث،القائم، الممكن…
يصعب إذن عزل المتغيرات والاستدلالات والمآلات،عن
تلك المعطيات.هكذا، وارتباطا بحدي التاريخ المحلي ومنظورات الكوني
بإيقاعاته السريعة والمتماسكة،غابت تقاليد لامحيد عنها وتلاشت منطلقات ومرتكزات أساسية،مما
انعكس سلبا في تقديري الشخصي،وأفرز هذا الوضع الثقافي البئيس، المترهل الذي
نعاينه :
*الثقافة وعقدة الخوف :طيلة سنوات الصراع بين أجهزة النظام والمثقفين،بهدف
الاستحواذ على مساحات رقعة الشطرنج،تحولت الثقافة مع الخطاب الرسمي إلى نقطة سوداء،واختزلت
من مرتع لزرع وإنبات قيم الحياة والإبداع، إلى ساحة للرعب.
*تفككك المشاريع الفكرية :إذا استعدنا حاليا ولو بشكل عابر،المتون
الرصينة التي أرست ممكنات الفكر المغربي،من طرف رموز الحلقة الصغيرة حقيقة، التي
حملت على أكتافها عبء تطوير الجامعة المغربية وعبرها كل ممارساتنا الفكرية،سنتبين بأنها
أضاعت مكونا مهما من بريقها وحمولتها، نتيجة تشتت تلك الاجتهادات، بسبب جفاء وتعكر
صفو العلاقات الشخصية، بين أصحاب تلك المشاريع الفكرية.على العكس من التراث السلوكي للممارسة الثقافية كما دأب
عليها الغرب.هناك، يٌتوارث تراكم وتكرس النظرية من جيل إلى جيل، بالتالي
اختلاف الموقف خلال لحظة بين هذا المفكر أو ذاك،لا يعني بتاتا إغلاقا موضوعيا للتفاعل
الخصب بين تاريخ النظريات.
بهذا الصدد أستعيد هنا واقعة تأثر العلاقة الشخصية بين فوكو
ودولوز،نظرا لتباين موقفهما نحو المحامي الألماني
كلاوس كرواسون الذي كان قريبا من جماعة الجيش الأحمر بزعامة ماري ماينهوف، المنخرط في أعمال العنف.لب القضية،أن كرواسون المتهم بالإرهاب التمس
اللجوء السياسي إلى فرنسا.لم يتردد دولوز، في وضع إمضاءه من أجل دعم طلبه، بينما
صمم فوكو على رفض إضافة اسمه منحازا إلى موقف حقوق الدفاع، المرتكز اعتراضه على
رفض مساندة الإرهاب.عموما، ساند دولوز
كلاوس كرواسون في حين امتنع فوكو. هكذا، بدأ التباعد بين الفيلسوفين الصديقين،وساد الصمت حتى وفاة
فوكو الذي اتخذ قرارا كي لا يجتمع بدولوز مرة ثانية. ضمن نفس السياق، تحمس دولوز للنضال الفلسطيني
المسلح ، بينما اتجه فوكو إلى مساندة إسرائيل….مع كل ذلك، استمرا معا يتبادلان قراءات ضمنية لكتاباتهما
والإحالة عليها متى تحتم الاستشهاد. أيضا، دولوز من سيتلو يوم 29يونيو 1984كلمة رثاء فوكو بصوت يكسره الحزن وسط فناء المستشفى
الجامعي "بيتي سالبترير" لحظة مراسيم دفن صديقه.
لنتأمل الأمر،وننتقل كي نلقي نظرة على مدى
الاحترام والاعتراف المتبادل بين رواد الفكر المغربي؟ثم درجات انعكاس ذلك على تطوير الفكر وتكريس تقاليد ثقافية
حضارية.هكذا تضيع تضمينات
المشاريع الفكرية وتبقى قابعة في أقبية دهاليز أصحابها.
*ثقافة العناوين : أقصد بهذا أن التكوين الفكري على
الأقل لأفراد جيلي،لم يتجه إلى الروافد الحقيقية للثقافة البشرية،إما بسبب غياب
توجيه أصيل من طرف المدرسين،أو لأن الفترة التي أشير إليها، شكلت تجليات البواكير
الأولى لتراجع المنظومة التعليمية.الأصول، كما يعلم الجميع، تمنح المتعلم تكوينا رصينا.لم نتمكن من قراءة أمهات الكتب، مثلما يقال في مختلف المعارف،مما جعلنا نسقط
في المباهاة والرياء لخلق نوع من التميز مع الجماعة وخلال الملتقيات والندوات.أذكر،وكم
من واحد انكب حقا على متون الشعر والنقد والبلاغة و.. وهيدغر وسارتر وديريدا ودولوز وابن
رشد …
،كي لا نتباهى ادعاء بقائمة عناوين
لاغير،ونتبجح دون دراية دقيقة بشعارات رنانة على منوال : "إن الأفق الهيدغيري للتجربة الشعرية" !...
''وقد استحضرت السارتيرية جحيم الآخر من خلال…" !"أما التفكيكية الديريدية
للميتافيزيقا الغربية" … !
كذلك، إخواننا
في التيار المحافظ، لا يتوقفون خلال جلسات النقاش عن التباهي شفويا، جازمين بأن "الجاحظ
يسوس اللغة كما تساق الدابة من لدن الفارس المغوار"… ! و"المقاربة الجرجانية (نسبة
إلى الجرجاني) ،نظرية لسانية بنيوية،استبقت الدرس اللغوي الحديث بآلاف
السنين"…. ثم يتوخى المتدخل إبهارك بتشديده الوصفي على كلمة
"الرجل" :"كان
الرجل فطنا"… ! "كان
الرجل مستشرفا للتطورات الحالية"… !لكن السؤال المطروح مرة أخرى :بدل الاستكانة إلى ثقافة العناوين القائمة
على الشعارات المتوارثة،كم السنوات التي قضيناها وقد كرسنا أنفسنا حقا لمعرفة
كتابات هؤلاء من الداخل.
*الاكتفاء باللغة الفرنسية :ربما تحول تقليد الترجمة عن الفكر الفرنسي،لأسباب
تاريخية،إلى نوع من الاطمئنان الكسول والوهمي،يحول دون التحول المستكشف والمضني
طبعا،لثقافات كبرى عبر لغات غير الفرنسية.وقد انتقل هذا "العائق" المعرفي والسيكولوجي
من السابقين إلى اللاحقين.
*عقائدية الإعلام الحزبي :لسنوات طويلة،ظل التسويق الإعلامي للإنتاج الفكري،تحت
قبضة الصحافة الحزبية وتحديدا جريدتين لا أكثر،كانت تنسج خريطة ومسالك ودروب
المفاهيم والأعلام والنصوص والرموز والمتوجين إلخ،حسب الانتماء والعلاقات والزمالة
أو التملق بالمدائح المجانية للزمرة المكلفة ب"التحكيم''في تحديد ''الجمالي''
من غيره :كم من شاعر اعتقدناه وقتئذ شاعرا
ولم يكن كذلك؟ كم من "عميد'' للفكر المغربي، تبين فيما بعد،
حينما استنزف شرطه التاريخي، أن الأمر مجرد جعجعة ومصالح دعائية متبادلة !
* ازدياد وتكرس نفوذ التيار الرجعي : شكل التواطؤ الضمني بين المنظومة الرسمية والتيارات
الرجعية تحت يافطة المحافظة والأصالة،ضربة موجعة اجتثث منابع بناء آفاق ممارسة فكرية عقلانية،تدرك
جيدا أهدافها ومقاصدها وقبلهما أولياتها الرصينة.هكذا، اختلطت المفاهيم،وضاع
كنه الحقائق،وساد التضليل،وتراجع السمين لصالح الغث،ثم صار الصغير كبيرا،والكبير
مهملا.