مدارسنا العربية، من الابتدائي إلى العالي، لا تعلمنا كيف نكون «نحن»، لا غيرنا، ولذلك فهي تواجه «الذات» و«الأنا». كنا نطالب بكتابة «الإنشاء» بالتركيز على
الأشياء، لا على كيفية التعامل الذاتي معها. وكنا نخشى التعبير عن آرائنا حيال الأشياء المطلوب منا الحديث عنها.هذا الحديث ليس سوى عبارة عن صيغ علينا الامتثال لها، وأي خروج عن «العناصر» المقدمة من لدن المعلم، أو الأستاذ تكون له آثار وخيمة. لذلك لم نتعود على كتابة الذات، ولا على التصريح بآرائنا. علينا أن نعرف ميول كل أستاذ ونكتب له وفق ما يريد هو، أو ينسجم مع ميوله وأهوائه. بهذا كنا نتناصح لنفلح وننجح. ولم يكن البيت سوى صورة عن المدرسة. لم نتعلم كتابة المذكرات، ولا تسجيل الذكريات، لأن لا أحد يمكنه أن يحترم خصوصيتنا، ولا يدفعه الفضول ليطلع عليها.
حتى في البحوث الأكاديمية العربية يُرفَض ضمير المتكلم، بالمفرد والجمع، رغم أننا لا نعرف متى نستعمل هذا أو ذاك، فنحن أبرياء من استعمالهما. تعجبت كثيرا وأنا أطالع الورقات البحثية للطلبة في الرياض ومسقط، حيث ينعدم المتكلم بصورة مطلقة. فالبحث هو الذي يتحدث، وهو «ما» يتكلم، ولا وجود لـ«الباحث». تقرأ مثل هذه الصيغ: «لن تتناول الدراسة»، و«يرى البحث أن»، «يتحدث هذا الفصل عن…» ومرة ناقشت أحد الطلبة في هذا، فقال لي: إنهم في المناقشة يركزون على استعمال الضمائر، ويتساءلون من أنت لتتحدث بضمير المتكلم؟
إذا انتقلنا من المدرسة والجامعة إلى الإبداع، نجد الشاعر العربي كان يتحدث عن ذاته، لأن الثقافة الشفاهية تسمح له بذلك، باعتباره «ممسوسا»، ينطق عن هوى ما يمليه عليه «شيطانه». وكانت «أنا» أبي الطيب استثنائية، ولذلك عد «متنبئا». لكن ما إن ظهرت الكتابة، حتى صار مسؤولا عن خطابه، إذ الكتابة قيد، وهي دالة على الكاتب. فصار لا يكتب عن ذاته إلا في صلتها بما هو مقبول ومتداول. وظهرت «السيرة الذاتية» في الغرب، لتجسد صورا جديدة من تطور النظر إلى الذات، والأنا والتعبير عنهما بأشكال مختلفة عما كان عليه الأمر في العصور القديمة. ومع الزمن صارت الذات تحتل موقعا مهما في الكتابة الأدبية الحديثة، سواء في الغرب أو عند العرب.
لا تخلو أي كتابة، كيفما كان جنسها أو نوعها، من ذاتية صاحبها. لذاتية الكاتب مراتب ومراق يحكمها الخطاب الذي تنتجه، ويُبِين عنها ما يسمح به لتجليها وتحققها بصورة ما. ولا يمكن التعبير عن الذات، أو الكتابة عنها، إلا من خلال السرد، سواء ظهر من خلال الشعر أو النثر. في السرد الذاتي تبدو لنا الذات في أبهى صورها، وهي تكشف لنا عما يميزها أو يبين ملامحها، أو تقدم لنا بعض جوانبها غير المعروفة. يتحقق ذلك من خلال اتخاذ المؤلف ـ الراوي ـ الشخصية (الفاعل) محور هذا السرد الذاتي. السرد الذاتي موجود أبدا، وفي كل زمان ومكان. فكل واحد منا يسرد عن ذاته أكثر مما يتحدث عن غيره، سواء في الحياة اليومية أو الفنية، وأي سرد عن الذات، يمكن أن يكون واقعيا، كما يمكن أن يداخله «الكذب»، أو التزيد، أو الخيال، فيكون بذلك تعبيرا عن الذات المتحققة أو المفترضة أو الممكنة.
ظهرت السيرة الذاتية في الأدب العربي تحت تأثير التطور الذي عرفته الذات العربية في العصر الحديث من جهة، وفي ضوء قراءة نصوص السير الذاتية الغربية وترجماتها إلى العربية من جهة أخرى. وحين نتعرف على عدد الكتاب العرب خلال قرن من الزمان، ونصطفي منهم من كتب سيرته الذاتية، نجد العدد ضئيلا جدا. فما مرد ندرة النصوص التي تتناول الذات الفردية، أو الجماعية في أدبنا العربي الحديث والمعاصر؟ أيكمن ذلك في سلطة المجتمع؟ أم في نكران الذات؟ أم في التقليل من أهمية التجربة الذاتية التي يمكن أن تجعلها قابلة للقراءة؟
أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح، ليس فقط على الأدباء عامة، والساردين خاصة، ولكن على المثقفين والساسة ورجال الاقتصاد والاجتماع، لماذا حين نقارن ما ينتج من سير ذاتية في الغرب، مع ما يكتب بلغتنا نجد العدد هزيلا جدا؟ والأدهى من ذلك هو أننا، حتى في غمرة اهتمامنا بالقراءة النقدية للنصوص «الذاتية» لا نطرح مثل هذه الأسئلة. فنحن نتحدث عن ذواتنا بصورة أكبر مما يجب، إلى الحد الذي يجعل الكتابة عنها متجاوزة وغير مجدية، بل إن الكثير من الكتابات السردية العربية تطغى فيها الذات المتصلة بالكاتب مهما بدت لنا «المواد الحكائية» بعيدة عن الذات ومنفصلة عنها. يصل الأمر إلى حد أن يكون ذاك البعد والفصل فقط للتعمية وصرف النظر عن البعد الذاتي في الكتابة.
يبدو لنا ذلك بصورة أوضح في كون السارد حتى وهو يكتب نصا يتصل بذاته، يرفض اعتباره «سيرة ذاتية». فلماذا لا نكتب السيرة الذاتية؟ أو نرفض إدراج كتابتنا عن الذات ضمن السيرة الذاتية؟ حين نتعلم الصدق في الحياة، يمكن أن نمارس كتابة الذات.
٭ كاتب مغربي