بعد أن تكرر الفعل عدة مرات، قرر أخيرا أن يستكشف غرض هؤلاء الشباب الصغار من توقيفهم للمارة.
كان في عجلة من أمره، البرد قارس في ليالي كانون اللندنية ، قبل أعياد الميلاد،
والساعة تجاوزت الثامنة مساء. لا وقت لديه لأسئلة لا تنتهي من مؤسسات إستطلاع الرأي العديدة في هذه المدينة. لكن تكرار الطلب جعله يشك في الأمر. فلربما كان للأسئلة علاقة بالحرب التي تلوح آفاقها فوق منطقة الخليج ؟. لم يسمع الأخبار منذ عدة ساعات. هل قررت أمريك اقصف العراق مع حليفتها بريطانيا؟.
أوقفته الفتاة الأخيرة قرب محطة النفق. إستجاب هذه المرة، وهيأ نفسه لأن يقول لها أنه ضد الحصار المفروض على الشعب العراقي، وضد الضربة وضد صدام في الوقت نفسه.فليخرج صوته رقما إضافيا في الإستفتاء.
"هل أنت راض ٍ عن حياتك الماضية أيها السيد"؟..
اقتحمه السؤال الانجليزي متداخلا مع لهجات عربية يعج بها الشارع من حوله. تأّمل الفتاة السمراء النحيلة، وود أن يسألها إن كانت خرجت له من قصص الخيال !. كررت السؤال. علق بأنه "سؤال غريب"، بل فضّل ان يقول أنه تافه ولا يبرر توقيفها له وإضاعة وقته في هذه الليلة الباردة. أجابت أن مؤسستها معنية بهذه الأسئلة الغريبة، قالتها وهي تبتسم ولم يشعر ان صوتها يشي بالسخرية. ولاحظ انها تمسك قلمها في حالة إستعداد للكتابة، بصرها معلق به مترقبة حركة شفاهه.
"لا لست راضيا عن حياتي الماضية ".ردّ متهكما منتظرا ماستفاجئه به من تعقيب، ثم سحب نفسا عميقا من سيجارته التي اوشكت على الانتهاء، فتأجج وهجها للمرة الاخيرة
شخطت الفتاة، متحمسة، بقلمها على مربع صغير فوق الورق.
" أضيفي إسمي للملايين الآخرين في العالم"..
ابتسم وانسحب بسرعة. كانت بوادر موجة انفعال غريبة قد بدأت تسري في جسده، لا تشبه على اية حال قشعريرة البرودة.
"سؤال آخر أيها السيد ".
استوقفته مرة أخرى بعد أن لحقت به، وبدا عليها الاصرار:
"ماذا لو أن هناك من يساعدك في تصحيح هذا الماضي؟"..
بادره خاطر سريع أن هذه البنت ذات اللكنة الانجليزية الفصيحة والعينين الصينيتين ، تلعب مع زملائها الآخرين من ذوي البشرة البيضاء لعبة فانتازية.. " ربما كانوايحتفلون بطريقتهم الشبابية الحديثة !". ألقى نظرة سريعة حوله حيث الاضاءة الشديدة زينت المدينة المقبلة على اعياد الميلاد ورأس السنة، فوجد أحد رفاقها مهموما مثلها مع عابر آخر. هل يزجرها وهو الذي يحاول قدر الامكان ان يثبت لأهل البلد منذ وصوله أنه غريب ومهذب، ولا داعي لأن يشعرون تجاهه بمشاعر العداء!.. لكن أسئلة الفتاة ذات الملامح الاسيوية تجاوزت سذاجة العديد من أسئلة استفتاءات المؤسسات التجارية التي واجهته من قبل.
" ومن هو هذا المتطوع لتصحيح مسار حياتي أيتها الآنسة ! " ..
سألها وابتسم لمرارة ساخرة بدأت تنتشر بين أضلاعه ضاغطة على رئتيه، بينما راح يلف الشال الصوفي حول رقبته ليرد عنها هواء الليل البارد. أراد ان يشارك الفتاة لعبتها بفضول كي يحكيها فقط لاصدقائه، المغتربين مثله في هذه المدينة الكبيرة. "هناك". . قالت الفتاة ثم مشت أمامه عدة خطوات لتقوده نحو المكان المفترض. "في المكتب فوق يا سيدي".
لم يزعق بوجهها. لجم غضبه واكتفى بأن أشار بيده حركة وداع.
بعد عشر دقائق، داخل قطار الانفاق، وفوق أحد المقاعد المصفوفة بشكل مستطيل ليكون ظهر الراكب باتجاه النافذة، كان قد رمى بجسده المنهك من نهار طويل، وراح يتابع أجساد الركاب الآخرين المستسلمة لاهتزاز العربة. كم واحد منهم ينطبق عليه السؤال.. الرضا عن الماضي؟.. قبل ساعتين، غادر عمله بمنطقة هامرسميث متوجها إلى شارع كوينزواي، ولم يكن لديه من مهام سوى تحويل المبلغ الشهري لأهله. فمن أين خرجت له تلك الجنية بأسئلتها الغريبة، التي ستظل على ما يبدو لغزا طريفا يحّوم في ذهنه. لم يسألها عن شركتها التي أرادت أن تصحبه إليها. أي عمل في الثامنة مساء؟.. قالت له " فوق "، فاستعاد حذره من مخاطر مخبوءة في هذا البلد الغريب. لكن هل إبتعد عنها لهذا السبب !.. لا. ما كان سيتبعها حتى لو كان موقع المكتب على الشارع العام. ربما أنها تعمل لصالح شركة تأمين !. خمّن بعيون ناعسة، أو ان شركة إستثمار تشغّلها ورفاقها لالتقاط رواد شارع يكثر فيه السيّاح العرب. " هل أنت راض ٍعن ماضيك ؟".. سألت البنت النحيلة. ما أغربه من سؤال في الصميم لا يطرح عادة سوى بين أطراف حميمة تعرف بعضها البعض، منذ زمن على الاقل!..
توقف القطار عند محطات عديدة فردد الصوت التقليدي الصادر عبر الميكروفون محذرا: " mind the gab "
"انتبه للفجوة".. عبارة مسجلة تنطلق في الانفاق عادة لتنبيه الراكب الى مساحة الفراغ ما بين القطار والرصيف عندما يهمون بالنزول. "انتبه للفجوة " . . وشعر ان حياته هي المعنية بهذا النداء المتضامن لحظتها مع "حشرية" فتاة شارع كوينزواي.
بعد ثلاثين دقيقة، وكان القطار قد أفرغ غالبية ركابه، لفت انتباهه خيال عجوز منعكس في الزجاج المعتم أمامه. " أهذا أنا؟".. ونظر حوله ليتأكد من أن ظل الأكتاف المحنية والرقبة الغارقة مع الرأس فوقهما، يتطابقان مع جسده. ثم لاحظ، أن الصحيفة التي كان قد أخرجها من حقيبته ليقطع بها ملل الطريق، لا تزال مطوية بين يديه. في الحقيقة كان ذهنه قد شطح به عشرين سنة إلى الوراء، حيث مطلع الشباب والأحلام المتحرقة للتحقق. هاهو بعد أن قطع كل هذا المشوار الزمني: تشردَ بين بلاد الله الواسعة، عمل في أكثر من بلد، انتهاءً إلى هذه المدينة الكوزموبوليتانية، ها هو يبدأ من درجة الصفر. أهو قدر الغرباء؟.. "بعضهم فقط "..صحح لنفسه المعلومة وتذكر غنائم كثيرة حققها غيره بأساليب لا يقوى عليها بطبيعته. ألقى نظرة ثانية على الخيال الجالس أمامه، ثم نهض إستعدادا لمحطته القادمة.
بعد اثنتين وثلاثين دقيقة على رحلته، كان يصعد السلم الكهربائي ويغادر محطة الانفاق القريبة من بيته.
لفحه هواء الليل البارد، فانتبه الى أنه نسى شاله الصوف في القطار. اشعل سيجارته وسار بإيقاع أكثر بطئا مما اعتاد عليه، لا يلف رقبته المرتجفة سوى سؤال حارق ألقي أمامه قبل قليل، ومن مؤسسة معنية بإجراء إستفتاءات ذات أسئلة غريبة.
لندن/ ديسمبر1997
ولدت في مدينة حلب شمال سورية .
عاشت منذ سنوات طفولتها المبكرة في الكويت حيث انتقلت العائلة مع رب الاسرة .
تلقت مراحلها التعليمية منذ الابتدائية حتي الجامعية في الكويت، وتخرجت من كلية الحقوق والشريعة.
عملت في الصحافة بعد تخرجها واشتغلت محررة في صحيفة "الوطن" الكويتية منذ عام 1979 حتى آب 1990 حين غادرت الكويت.
نشرت الحوارات والتحقيقات الصحفية والنقد السينمائي في مجموعة من الصحف والمجلات العربية . وبالاضافة للعمل الصحفي تكتب المقالة، وقد نشرلها في صحف " الحياة" و"الشرق الاوسط" و "الزمان".
حاليا هي مسؤولة التحرير في مجلة " الرجل" التي تصدر في لندن عن الشركة السعودية للنشر .
تقيم في العاصمة البريطانية منذ العام 1994 وانتسبت لمجموعة من الدورات في: النقد السينمائي، فن الرواية، السينما الوثائقية، والادب الانجليزي.
لها مجموعة قصصية بعنوان "حالنا وحال هذا العبد" صدرت في دمشق عام 1992. ورواية "صباح إمرأة" صدرت عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 2000.
مؤحراً صدرت لها مجموعة قصصية جديدة عنوانها "فنجان شاي مع مسز روبنسون" عن دار "ميريت في القاهرة"