كثير مما تشهده بلدان ما بعد الانتفاضات العربية من فشل سياسي داخلي واستنزاف في الجهد والوقت وهدر في الطاقات يعود الى اصل واحد: خلط الدين بالسياسة. من مصر
الى تونس الى ليبيا الى اليمن الى سوريا الى المغرب والاردن تشتغل حركات سياسية تحت لافتة الدين ويزعم كل منها انه الناطق بإسمه وحامي حماه. حركات التيار الاسلامي وبتنويعاتها المختلفة, وكما يحلل الصديق رضوان السيد في اكثر من مكان, قامت استئثار كبرى سحبت من خلالها الدين التاريخي والشعبي المتجذر في المجتمعات العربية بعفوية ومن دون اية ادعاءات كبرى, وارادت حشره في السياسة والحكم والان في النصوص الدستورية.
تخوض التيارات الاسلامية العربية الآن معارك طاحنة, لكنها مفتعلة ومختلفة ومُستنزفة لطاقات البلدان والمجتمعات إن لم تكن مدمرة لها. تحشد تلك التيارات طاقاتها وقواعدها وتنظيماتها وتستنفر مؤيديها وتدفع بهم الى الشوارع كي تفتعل “معركة الدستور والشريعة” وبطريقة كاريكاتورية بحتة. كأن وجود نصوص دستورية يغير من الواقع شيء, وكأن النص في الدستور المصري مثلا على ان الشعب المصري شعب مسلم يجعله شعبا مسلما, في ما لو لم يتواجد ذلك النص لخرج الشعب عن الاسلام. حتى التنصيص على ان الشريعة هي مصدر القوانين والتشريع هو افتعال لمعركة لا معنى لها. الشريعة هي المنظمة لحياة الناس طوعا واختيارا وايمانا, وليس فرضا وفوقية. والالتزام بها خاص بكل فرد من الافراد على حدة وعلى اساس ذلك الالتزام الفردي, وليس الجماعي, تنتظم علاقة كل إنسان بخالقه. عندما تتدخل القوانين في ذلك وتريد ان تجد لها مكاناً في علاقة دينية فردية نظمها الدين منذ عقود فإن هذا خلط للسياسة في الدين, ونوع من الكهنوت الجديد.
خلط الدين بالسياسة ليس جديدا على المجتمعات البشرية بل كان النمط الاكثر تسيدا خلال قرون طويلة, وكانت نتيجته واضحة وكتب التاريخ التي تسرد لنا النتائج الكارثية بسبب ذلك تتكدس ارتالا. قياصرة واباطرة وملوك وخلفاء وسلاطين استغلوا الاديان للبقاء في سدة الحكم والاستبداد, ووظفوا العقائد للحفاظ على مكاسبهم السياسية وتعظيمها, وحملوا رايات الدين من اجل غزو الشعوب الاخرى واخضاعها لسيطرتهم ولنهب ثروات الآخرين. مقابل التجارب الكارثية والمدمرة والتي لا تحصى في جانب خلط الدين في السياسة, ليس هناك في التاريخ ما يدلل على نمط ناجح في سياق تديين السياسة وتسييس الدين.
التجربة الاكثر إعلاما في القرون الاخيرة والراهنة حاليا في مسألة علاقة الدين بالحكم والسياسة في اطوارها المختلفة تجسدت في السياق الاوروبي. على مدار قرون طويلة تحكم رجال الدين بالسياسة والقصور والجيوش, وتحكم رجال السياسة بالدين والكنيسة والباباوات, فكانت النتيجة حروبا دموية طاحنة, وانظمة ظالمة بالغة الاستبداد, وعنصريات ضد الشعوب والجماعات المختلفة حتى لو كانت من ابناء الوطن الواحد, ذلك ان السياسي الذي يتمنطق بالدين ويخفي وراءه اهدافه السياسية سوف يزعم ان صيغة وتفسير الدين الذي يتبعه هي الصيغة “الحق” وما عداها هرطقة خارجة عن الدين ولا يستحق اصحابها سوى المطاردة والعزل. ولأن كل طائفة وجماعة داخل الدين الواحد تعتقد برسوخ ويقين لا يتزعزع أنها هي ولا احد غيرها الممثل الشرعي والحقيقي للدين فإن ذلك يقضي على اي مساحات للحوار الفعلي وتقديم التنازلات. كل الشعارات الانيقة والجذابة التي تحوم حول مقولة ان “الخلاف لا يفسد للود قضية” تنهار ويصبح لا معنى لها, حيث تشرع اتهامات الانحراف عن الدين تتراكم والكل يزعم وصلا بليلى. والمعضلة الكبرى هنا, وهي اس معضلة خلط الدين مع السياسة, تكمن في ان موضعة الصراعات والنقاشات والخلافات السياسية على قاعدة دينية معناها الدخول مسبقا الى حلبة صراع ليس فيها حلول وسط, وتسعير الصراع وليس حله. يحدث هذا لأن القضايا السياسية والتي يمكن حلها او الوصول الى مساومات وتنازلات بشأنها عندما تبقى في حلبة الصراع السياسي تتحول الى قضايا دينية لا تحتمل التنازل او المساومة.
والممارسة السياسية الراهنة للاحزاب الاسلامية وهي في الحكم او قريبة منه, كما في مصر وتونس وليبيا, تقدم لنا قائمة طويلة من الامثلة على خطر تحويل الخلاف السياسي الى خلاف ديني وعقدي. اذا قام الحزب الاسلامي بخطوة سياسية معينة او اتخذ رئيسه قرارا سياسيا ما ثم تمت معارضة تلك الخطوة وذلك القرار على ارضية سياسية, لأن كل خطوة سياسية وقرار سياسي سوف يكون له معارضون بالتعريف وبالبداهة, فإن اسهل طريقة للدفاع عن الحزب والقائد السياسي تكمن في الاحتماء بالدين والقول بأن معارضي القرار السياسي هم ضد الدين. راينا هذا خلال المعركة السياسية الطويلة والمؤلمة إزاء صياغة الدستور المصري ثم الاستفتاء عليه. اصبح المعارضون للدستور معارضين للاسلام والدين واحيل الصراع السياسي برمته الى صراع ديني لا حل وسط فيه. وحفل الخطاب الديني السياسي لرموز التيارات الاسلامية بلائحة طويلة من الشتائم والاتهامات التي وضعت جميع المعارضين على حدود التكفير.
في تونس وفي احد آخر فصول التنافس والصراع السياسي بين الاسلاميين وبقية الاحزاب التونسية هناك جدل الآن حول ممارسات وزير الخارجية التونسي واتهامات له بإستغلال منصبه, والانفاق من ميزانية الوزارة على إقامته الخاصة في فندق من خمسة نجوم. رد الوزير على الاتهامات الصحفية يقوم على اساس انه يتأخر في مكتبه في بعض الليالي مما يضطره للمبيت في الفندق ودفع فاتورة الاقامة من ميزانية الوزارة, وهي الميزانية التي يقول متهموه انها لا تسمح بمثل هذا الصرف وليس فيها بنودا تغطيه. الى الآن والموضوع سياسي بحت ويحدث في اي بلد من البلدان, والوسيلة المتبعة هنا هي لجوء المُتهم والمتُهم الى القضاء للبت في ما إن كان الوزير اساء استغلال سلطاته. ومن الطبيعي ان يقفز الاعلام على مثل هذه القصة ويتحدث فيها وينقب في خلفياتها. ثم فجأة يلقي راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة خطبة الجمعة يتناول فيها الموضوع, من دون التصريح بالاسماء والحادثة لأن وزير الخارجيه صهره وزوج ابنته, ويتهدد ان حكم ترويج الشائعات في الاسلام هو الجلد 80 جلدة! معنى ذلك ان القائد الفعلي للحزب الحاكم في تونس يريد ان يلجم افواه الناس ويلجم السياسة من أن تأخذ مجراها الطبيعي من خلال اقحام الدين في حادثة سياسية بحتة.
الشيء المؤسف في تاريخ البشرية ان كثيرا من حلقاته تكاد تتشابه حتى لا نقول انها تعيد نفسها, ولكن الشعوب والمجتمعات لا تتعلم من غيرها. كأن هناك جينات خبيثة تجبرها على دفع الثمن الباهظ الذي دفعته شعوب ومجتمعات اخرى حتى تصل الى نفس النتيجة. سوف نصل الى فصل الدين عن السياسة في هذه المنطقة من العالم, لأن ذلك الفصل هو الوحيد الذي سوف يوفر حياة عادية للناس من دون اراقة دماء واقصاء. لكن السؤال كم من الزمن سوف نهدر وكم من الجهد سوف نستنزف حتى نصل الى نتيجة معروفة سلفا؟