مضى أسبوعان على رحلة دونالد ترامب إلى المنطقة، الرجل لم يتغير، وصفقات القرن التي عقدها مع مضيفيه العرب، لم تكن كافية لزحزحته قيد أنملة عن أجنداته المثيرة في الإقليم برمته.
بعد القمة، كانت للرجل زيارة إلى إسرائيل، مر على هامشها ببيت لحم، والتقى الرئيس الفلسطيني محمود عباس ... وبخلاف قمة الرجلين الأولى في البيت الأبيض، والتي بدت حميمية وإيجابية للغاية، فقد تصرف ترامب في المكتب الرئاسي الفلسطيني بجوار كنيسة المهد، كما اعتاد التصرف على حلبات المصارعة التي طالما رعاها واستثمر فيها ... اهتاج وماج وضرب الطاولة بقبضته (التي لا زالت قوية بالمناسبة)، متهماً الرئيس والسلطة والمنظمة بالكذب والخداع، وممارسة التحريض على العنف وكراهية الإسرائيليين واليهود، مستجيباً بذلك أتم الاستجابة لـ”البروباغاندا” الإسرائيلية.... مرة أخرى، المليارات لم تزحزح الرجل قيد أنملة عن مواقفه من القضايا العربية والإسلامية، بل ولم تمنعه من مجاراة أكثر الاتجاهات الصهيونية تطرفاً والمزايدة عليها، ودائماً على حساب ما كان يعرف بـ”قضية العرب المركزية الأولى”.
لنأتي إلى الملف الأهم، أو “الطامة الكبرى” بالنسبة للعرب، وأعني به ملف العلاقة مع إيران، حيث الحرب الكلامية الضروس التي شنها ترامب المرشح والرئيس، لم تدفعه إلى إلغاء صفقة البوينغ مع إيران، بل وتوقيع صفقة ثانية بعد شهرين من توليه مقاليد الرئاسة ... إذ حتى في الرياض، لم يقفل ترامب الباب أمام إيران لـ “العودة” للمجتمع الدولي، حتى أن وزير خارجيته قال إنه سيجيب على هاتفه إن كان محمد جواد ظريف على الطرف الآخر من الخط، وسط توقعات لصحيفة بوزن النيويورك تايمز، باحتمال ترجيح كفة “عقد الصفقات” على “خوض الحروب” مع إيران.
“بائع الكلام” نجح حتى الآن في إبرام انجح صفقات حياته وأكثرها مردودية على معدلات النمو وأرقام البطالة والتشغيل في الاقتصاد الأمريكي ... صفقة البوينغ وحدها وفرت 18 ألف فرصة عمل، وعقوده في الرياض كفيلة بتوفير مليون فرصة عمل خلال السنوات القادمة.. هم يحصلون على فرص العمل، وأبناء المنطقة يفقدونها، وجيوش العاطلين فيها، إلى تزايد مطرد ... أما على الأرض، فلا شيء في مواقف واشنطن وسياساتها يتغير.
لم يساورنا الشك بثبات الرجل على مواقفه الداعمة لإسرائيل، أياً كانت مستويات “السخاء العربي” في تقديم المال وإبرام الصفقات الفلكية، بيد أننا توقعنا، ولو من باب ذر الرماد في العيون، كأن يتخذ الرجل سياسات أكثر حزماً ضد إيران وحلفائها، أقله من باب تعزيز مكانة حلفائه وأصدقائه في المنطقة ... لم يحصل حتى الآن، سوى إغداق الوعود وإغراق المنطقة بسيل من التصريحات الفارغة.... الصحيفة الأمريكية ذاتها، نقلت في تقرير لها أجواء العاصمة الإيرانية، التي تراقب بعناية تطور المواقف الأمريكية، من دون أن ترتعد فرائصها خوفاً وهلعاً ومن دون أن تشعر بأن باب الحوار قد بات مسدوداً.
غادر الرجل المنطقة، على أمل أن تشرع دولها في بناء “ناتو شرق أوسطي”، يتصدى لإيران والإرهاب ... لم يجف حبر البيان، حتى انتهينا إلى أزمة غير مسبوقة في قلب الدائرة الضيقة المرشحة لقيادة هذا الحلف، إذ بدل الشروع في بناء مؤسساته، رأينا الوسطاء ينشطون على خطوط الدوحة وأبو ظبي والرياض والقاهرة والخرطوم، لرأب الصدع الخطير داخل دول مجلس التعاون ووقف التدهور في العلاقة بين السودان ومصر، عضوي التحالف المفترضين، وسط مناخات توحي بأن واشنطن ليست منزعجة من تفاقم هذه الخلافات والانقسامات، فكلما زادت المخاوف البينية بين هذه الأطراف، ارتفعت مبيعات السلاح الأمريكي، وتوافرت لمزيد من الأمريكيين فرص عمل جديدة.