عرفتُها موهبةً واعدةً قبل أن تنشر شِعرها، منذسنوات، ونوَّهتُ بتجربتها
اللافتة في حوار بمجلَّة «الإعلام
والاتصال»، السعوديَّة، (العدد
161، محرَّم 1433هـ= ديسمبر 2011م، ص30- 33)،
مع الإعلامي (خير
الله زربان). وقلتُ حينها إن «الشِّعر
لا ذكورة فيه ولا أُنوثة.ويظلُّ حضور المرأة في مختلف المجالات الثقافيَّة
العامَّة أقلَّ من حضور الرجل لأسباب اجتماعيَّة معروفة، ولاسيما في مجالالشِّعر.
ومع تحفُّظي على طرح الأسماء، سأشير إلى نموذجَين، من الجيل الأحدث، وهما شاعرتان
لافتتان بتمكُّنهما من الأدوات اللغويَّة والفنِّيَّة، هما: آسية العمَّاري،
وهيفاء الجبري.الأولى فرِحتُ بتجربتها، فكتبتُ مقدِّمة مجموعتها الأولى «بشأن وردتين»،
والأخرى فوجئتُ مؤخَّرًا بمعرفة تجربتها الشِّعريَّة الرصينة.» ومنذ ذلك التاريخ ظللتُ أُلِحُّ على الشاعرة في جمع قصائدها ونشرها، على
تردُّدٍ كانت تُبديه، وتعبيرٍ عن أن تجربتها ما زالت دون النُّضج المؤهِّل للنشر،
متأثِّرةً ببعض الآراء الانطباعيَّة حول شِعرها، ممَّن يحترفون تحطيم المواهب. وفيما أنا أواصل تشجيعها لتسجيل حضورها الشِّعري المستحقِّ، فوجئت بانفتاح
شهيَّتها المفاجئ للنشر؛ فنشرتْ مجموعتين شِعريَّتين في أقلِّ من سنتَين، وهي
تَعِد بالمزيد.فعُدتُ لأنصحها هذه المرَّة بالتريُّث؛ لأن قيمة الشِّعر ليست
بالغزارة بل بما يحمله ماؤهممَّا يُحيي الأرض ويمكث فينا.
إنها الشاعرة (هيفاء الجبري)، شاعرة البيت الذَّهبي. وحديثي في
هذه المقالة عن مجموعتها الشِّعريَّة الأُولى «تداعَى
له سائر القلب»، (النادي الأدبي بالرِّياض، 2015)، ضمن «سلسلة الكتاب الأوَّل»، التي
يصدرها النادي. والعنوان- كما هو
واضح- يتناصّ مع الحديث النبوي حول المؤمنين، الذين هم كالجسد الواحد.وما زلتُ،بعد
هذه السنوات،أرى أن هذا الصوت،كأمثاله،حريٌّ بالاحتفاء. ذلك الاحتفاءالبنَّاء،
والنقدي المتخصِّص، لا الانطباعي، ولا ذلك الموظِّف النقد الأدبي لمآرب أخرى. دون أن تطغى العاطفة الأبويَّة للناقد- وربما بنرجسيَّة إضاءة الناقد من
خلال المبدع- على ما ينبغي للنقد من مكاشفة، وللعِلْم من معايير، ولا بنزوع
مجاملة- ولاسيما للمرأةلعوامل إديولوجيَّة أو اجتماعيَّة- على ما للمبدع من حقٍّ،
في عدم التغرير، بكثرة الإطراء والتبشير بمستقبلٍاستثنائيٍّ لا يُنبئعنه منجزٌراهن.
ولعلَّأبرز ما يميِّز هذا الصوت- كما
يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي- أنه:
صوتٌأصيل. من حيث هو نبتٌ عربيٌّ طبيعيٌّ، ليس يدَّعي تحديثًاقبل أن يملك ما
يحدِّثه، وذلكبالانطلاق من معدن الشِّعريَّة العربيَّة. فالجبريطَلْعٌ بيئيٌّشِعريٌّعربيٌّ، لغةً، وإيقاعًا، وتعبيرًا، لا من خارجهذه
البيئة، مع أنها تحمل شهادةً في اللغة الإنجليزيَّة، وهذا مصدر تميُّزٍ إضافي. وهذه الخصائص تنطبق على جيلٍ جديدٍ من الشعراء، كانت نبوءتي له، منذ بداية
هذا القرن، بأن المستقبل الشِّعري المنظور سيكون في يديه.وذلك ما جاء، مثلًا، في
كتابي «حداثة النصِّالشِّعريِّ في المملكة العربيَّة السعوديَّة (قراءة نقديَّة في تحوُّلات المشهد الإبداعي)»، (2005)، إذسجَّلتُ هذه الملحوظة باعتزاز،بأننا أمام «آفاق مستقبليَّة أكثر نضجًا
وتخلُّصًا من عثرات المراحل الانتقاليَّة التي مرَّت بها القصيدة الحديثة، إبَّان
السبعينيَّات والثمانينيَّات من القرن الماضي، بين تيارٍ تقليديٍّ كان مسيطرًا،
وتجارب جديدة، كانت تتلمَّس طُرُق التجديد، دون تأسيسٍ رصينٍ يؤهِّلها جِدِّيًّا
لذاك... إن محصِّلة الاستقراء تزعم أن
القصيدة الحديثة اليوم تقف على مشارف عهدٍ جديد، يُنبئ عن انصهار التيارات... في تيارٍ، يمكن أن نطلق عليه
(الحداثة الأصيلة، أو الأصالة الحداثيَّة)، تقوده شبيبةٌ، جمعتْ إلى المواهب تعليمًا أغنَى، وفكرًا أرحب،
قمينَين بأن يَبعثا لديها وعيًا بتُراثها، وإدراكًا أعلى بمسؤوليَّاتها صوب التحديث.»وكم سعيدٌ أن أشهد الآن تحقُّق ذلك يومًا إثر يوم!
تُهدي الشاعرةُباكورتها
الشِّعريَّة هكذا: «إلى
ذاتي... السارحة في الوجود.. ابتغاء صوتٍ غير ذي أجل، سمَّوهُ قديمًا: «شِعرًا».» أجل، هذا اسمٌ قديمٌ لجنس أدبيٍّ، يُراد له حديثًا أن
يتماهَى بالنثر.فقيل «قصيدة نثر»، فلم يحتجَّ الشِّعر كثيرًا، لكنه
ترقَّى الادِّعاء إلى تسمية النصِّ النثريِّ: «قصيدة شِعر»! وجميلٌ أن ثمَّة مَن لا يزال يبتغي صوتنا الشِّعري
الحقيقي، لا الصوت المزيَّف بدعاوَى لا أصل لها من الإبداع والعربيَّة والشِّعر. ولولميكنفيهذهالمجموعةسِوَىقصيدة «بواخرفيعينيك» لكفتهاشهادةًعلىبلوغماابتغتهالشاعرةُمنصوتٍحقيقيٍّللشِّعر:
وكَــمْ
مُــتُّ لكــنِّي أعـــودُ وفي يــدِي ** مــنَ
المَــوتِ حُــلمٌ صاعــدٌ كـدُخــانِ
أُحـيــطُ بــعَــــيْـنَـيَّ
الــغُــروبَ أضُـمُّـــهُ ** ولَــونُ
رحــيلِ القَــلبِ أحـمـرُ قـــانـي...
وقالتْ
لي الأحلامُ، والبحرُ خَلْفَــنا: ** «سَليهِ» فضَجَّ البحرُ في الخَفَقانِ...
أنـا!
هوَ! كــسَّـرتُ الأمـاني رميتُــها ** جُـــروحــًا
وشُــطــآنــًا ودمعَ جُــمَـــانِ
وهيقصيدةٌفياثنيعشربيتًا- ومعظمقصائدالديوانمقطوعاتٌأوتميلإلىالقِصَر- ذاتلغةٍجزلة،وإيقاعٍمنالطويل،بحرالمعلَّقات،وتشكيلٍتصويريٍّبارع. ومايكتبنصًّاكهذاغيرشاعرٍمتمكِّنٍحقًّا. علىأنالملمَحالأجلَىلدَىالجبرييظلُّفيالبيتالتناظري،الذييمثِّلمتَّكأمهارتهاالأرقَى،فتوليهعنايتهاالفائقة،جزالةً،وسبكًاقَداميًّا- قديُفرِطفياحتذاءالأصواتالتراثيَّة- متأثِّرةًشواردَالشِّعرمنهذاالضربمنالنسجالمعتَّق،حتىلربماجاءذلكعلىحسابتماسكالقصيدةووحدتها. ولهذاتَظهربراعةُالشاعرةفيالقصيدةالعربيَّةأكثربكثير
منقصيدةالتفعيلة.
وإذ لا أودُّ الإسراف في تقديم شهادة، ربما بدَت مجروحة لعلاقتي المعايشة
لولادات هذا التشكُّل الجميل لتجربة الجبري- وبخاصَّة في طَور الثقة بجدوَى النشر بعد جدوى الشِّعر- سأكتفي أخيرًابالتوقُّف عندمَلمَحٍإيقاعيٍّ في مجموعتها الأُولى،
ولنأتطرَّقإلى الثانية «البحر
حُجَّتي الأخيرة»، لتسارع الإيقاعالمشار إليه في الإصدار.ذلك المَلمَح هو
كثرة ركوبها (البحر الخفيف)، بحر الشاعرة المفضَّل، واضطرارها فيه إلى
التشعيث.وتشعيث البحر الخفيف جائزٌ عَروضيًّا، إلَّا أنه يُشعِرك بالتنشيز في
الوزن.من أجل هذا نجد (أبا العلاء المعري)(1)كان يُثني على (البحتري) لصونه قصيدته: «صُنْت
نفسي عما يُدَنِّسُ نفسي» من
التشعيث. قائلًا: «أمَّا تشعيث وَتد القصيدة
فإن وزن السينية [إذا]
كان مستعملًا بالرِّدْف، جاء في الجزء الذي يقع فيه اللِّينُ زِحافٌ يُسمَّى
التشعيث، لم يمتنع منه الشعراء في الجاهليَّة ولا الإسلام... فإذا فقدت الأوزانُ
من هذا الجنس حُروف الرِّدْف جاءت سالمةً من التشعيث؛ لأنه إذا ظهرَ بانَ خَلَلُه
فيها، فيَجتنبه الفحولُ مثل ما اجتنبه (أبو
عُبادة).» ولقد كنتُ أستثقل التشعيث في ضَرب الخفيف، مع تجويزه لدَى العَروضيِّين،
حتى وقفتُ على كلمة (المعري) هذه،
التي تكشف عن أن الطبع ينبو عنه بالفعل،في ما خلا القوافي المردوفة.وهذا ما كنتُ
ألحظُه في شِعر (الجبري) لتشعيثهاأضرب
البحر الخفيف.كما في قولها:
إنهــا الـروحُ غـادرتْـني ولكـن ** لم تُغادِرْ صَحائفَ العاشقَيْنِ
فـأنا أسـمَـعُ الحـمـامــةَ دَومـًا ** تَـتَـغَــــنَّـى بِـسِـــــيْـرةِ الـقَــــلْـبَـيـْـــنِ
فالتشعيث في التفعيلة الأخيرة من البيت الأخير مستثقلة.وليست الياء في القوافي
هاهنا برِدف؛ لأن الرِّدف حرفُ مَدٍّ موافقٍ لحركة الحرف السابق؛ مثل (الياء
والألف والواو) في: العاشقِيْن/ العاشقَان/ العاشقُون.ومصداق قول (أبي العلاء) أن قصيدة
(الجبري) «شِعرالمبكَى»، جاءت سائغة التشعيث، علىالرغم من أنها استعملت التشعيث في أكثر أبياتها،
وذلك لوجود الرِّدْف في قوافيها:
أخذَ الشِّعرُ من حياتي كثيرًا ** ليته يمنحُ الذي أعطاهُ(2)
تحيَّة مجدَّدة للشاعرة هيفاء الجبري! وإلى مزيدٍ من التجويد اللغوي، والإتقان النصِّي، والترقِّي بوحدة
البيتالمكثَّف إلى وحدة القصيدة.لعلَّهيفاءتجبر الشِّعر العربي الحديث من التشعيث الذي مَسَّه- ومعها ثُلَّةٌ من مجايليها من الشواعر والشعراء- بعد أن
تسوَّر محرابه أنصافُالموهوبين، واستخفَّ قومَه فأطاعوه معظمُ الأدعياء من
الناثرين، من الكُتَّاب والنقَّاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)انظر: (1984)، رسالة الصاهل والشاحج، تحقيق: عائشة عبدالرحمن
«بنت الشاطئ» (القاهرة: دار المعارف)، 520- 522.
قوله إن «وزن السينية إذا كان مستعملًا بالرِّدْف، جاء
في الجزء الذي يقع فيه اللِّينُ زِحافٌ يُسمَّى التشعيث»، يعني أن
السينية لو كانت ذات رِدْف، لساغ فيها التشعيث. ويقصد باللِّين: حرف المدِّ
اللَّين السابق للروي، الذي يُسمَّى «الرِّدف». أمَّا تسميته حذف أول الوتد
المجموع من (فاعلاتن)، بحيث تصبح (فالاتن): «زِحافًا»، فغير دقيق الاصطلاح؛ لأن
الزحاف هو: ما يلحق بثواني الأسباب من نقصٍ، مفردٍ أو مزدوج، في العَروض أو
الضَّرب أو الحشو، والأصل في حكمه: عدم اللزوم، و«العِلَل»: ما لحق من ذلك في
الأسباب والأوتاد، في العَروض أو الضَّرب فقط، والأصل في حكمها: اللزوم. فالصواب
أن (التشعيث) عِلَّة جَرَتْ مَجرَى الزِّحاف في عدم اللزوم، يستعملها الشاعرُ في
بعض قصيدته ويدعها في بعض.
(2)في الديوان: «أُعطاهُ»، (بضمَّة على الهمزة). فإذا
كان المعنى «أُعطِيَ إيَّاه»، فهي صياغة لا تصحُّ، بل يجب فصل الضمير. وفي
القول: «ليتهيمنح الذي أَعطاهُ» مندوحةٌ لغويَّة ودلاليَّة.