القصة
القصيرة جداً هي من أصعب الأنواع الأدبية وأكثرها عمقا ومعرفة..
مشلين بطرس:عالمنا العربي لم يدرك الأحداث بعد، لأنه عالم أناني يتخبط في الموروث الديني..
مشلين بطرس:عالمنا العربي لم يدرك الأحداث بعد، لأنه عالم أناني يتخبط في الموروث الديني..
ـ تكتبين القصة والقصة القصيرة جداً
والدراسات النقدية في المسرح والقصة والشعر، وأيضاً أنتِ ناشطة في مجال الثقافة
والأدب ألا يساهم هذا في تشتيت المبدعة التي في داخلكِ، ومن أنتِ، القاصة أم
الناقدة أم الناشطة ؟
*بداية دعني أرحب بك أستاذ بسام وبكل قارئ
حصيف يبحث عن الفرح ليكون فاعلا في صناعته حتى نحمي انسانيتنا من العفن.إن كتابتي
للقصة القصيرة جدا، ودراساتي النقدية في المسرح والأدب، وما أنظمه من مهرجانات
وأمسيات ادبية لا يشتت المبدعة في داخلي، بل على العكس تماما يعزز شعلة الابداع
ويطورها، بل ويحميها من الانطفاء أو الخمول، وضف على ذلك اهتمامي بالفن التشكيلي،
صحيح أنني لا ارسم سوى “خربشات” لكني استطيع ان أحلل لوحة رسمتها ريشة
إبداع وقد كان لي عدة دراسات في لوحات تشكيلية أقيمت في معارض داخل بيروت، وقد
نشرت تلك الدراسات في عدة مواقع الكترونية وصحف ورقية، هذا لا يعني أبداً أن
المبدع لا يحتاج الى عزلة كي يحلّق في فضاءات تخييله لتود انجازاته، بل على العكس تماماً،
لكن ولأن لا عزلة دون ضجيج، ولا ضجيج دون عزلة يبقى خلق التوازن بين الثنائيتين هو
ما يحتاجه المبدع، وهذا ما أعمل على اعتداله في مسيرتي الأدبية، وكل قارى هو ناقد
بالذائقة، لكن تتفاوت النسب بامتلاك ذائقة حصيفة وعميقة في آن، وأنا وقبل كل شيء
قارئة نهمة، فالكتب اجنحة الانسان التي لا تتكسر.
ـ في قصصكِ تستعملين لغة مبسطة وبعيدة عن
بلاغة ثقيلة، مما يجعل قصصكِ تمتاز بالجمالية، هل دائما تكتبين بهذه اللغة، أم
تكتبين بلغة شعرية مكثفة أيضا ؟
*للبعد اللغوي في القصة القصيرة جداً خصوصية أكبر من
باقي الأجناس الأدبية الأخرى، لأنها البؤرة الأساسية التي تنطلق منها الأبعاد
الأخرى في القصة وترتكز عليها. ففي قصصي القصيرة والقصيرة جداً التي أكتبها تقترب
اللغة فيها من لغة الشعر سواءً أكان على صعيد الجملة التي تنتج رمزاً وإيحاءات
وانزياحات، او على صعيد الدلالة العامة التي تنتجها قصتي كاملة، ولن اللغة في ال
ق.ق.ج هي أداة إنتاج وليست أداة اتصال، تكون اللغة من داخل القصة وليست من خارجها،
لذا أكتب بلغة مبسطة وشعرية مكثفة في آن معاً، وكما يقول رولان بارت: إن اللغة
ليست زاداً من المواد بقدر ما هي أفق.
ـ هل تفضلين أن يكون البطل في قصصك
الفكرة أم اللغة؟
*تطرقنا آنفاً لأهمية التكثيف في لغة القصة القصيرة
عموما، والقصيرة جدا خصوصاً، ولأنها ميزة هذا النوع الادبي السردي، تجدني دائمة
البحث عن كيفية تكثيف الفكرة بلغة مبسطة منها يولد نصي، وبعد صراع تبادلي بين (
اللغة والفكرة) ينتصر فن القصّ، ويكون الاسلوب هو بطل قصتي.
ـ ما هي العناصر الأساسية للقصة الناجحة؟
وكيف على القاص أن يطور لغته الأدبية وأدواته القصصية ؟
*كتب الروائي أرنست همنغواي “قصة” من ست كلمات اعتبرها أفضل أعماله على
الاطلاق. تقول القصة:”للبيع حذاء طفل، لم يرتده أحد!” أعتقد أن أهم عناصر القصة القصيرة جدا
الناجحة هو الحدث، بالإضافة الى التكثيف والإيجاز، فالقصة القصيرة جدا تقوم
على وجهين هما:أـ الحركة الداخلية التي
عليها يقوم النص، وذلك بالعلاقة التبادلية بين الاختزال والتكثيف دون إغفال عنصر
الإيجاز فالتكثيف كما يقول د. يوسف حطيني”يدفع السرد نحو الاكتفاء في تقديم
الشخصية الواحدة في بعض الاحيان. ب ـ اما عن الحركة الخارجية فهي تعتمد على تركيب
الجملة بدءاً من اللحظة التي بها تبدأ ال ق.ق.ج وهي لحظة الفعل والذروة معاً وصولاً
إلى قفلتها. ومنه على كاتب ال ٌ.ق.ق.ج ألا يغفل عنصر الدهشة او الصدمة، وعليه ان
يطور أدواته الأدبية بالقراءة والقراءة، ومن ثم القراءة، وألا يهمل موهبته لكل
الدراسات النقدية التي تتناول القصة القصيرة جداً، حتى تنتهي القصة الناجحة بنهاية
غير نمطية تفتت وحدة الصورة بما هو غير متوقع أصلاً.
ـ هناك من يدعي ـ وهذا برأيي تعسّف ـ أن
القصة القصيرة هي تدريبات تسبق الرواية وليس لها مستقبل، مع أن لها حظ وافر في
النشر وقلما تهملها صحيفة أو مجلة أو حتى إذاعة، ما رأيك؟
*يقول يوجين اونيسكو:”كل أدب جديد عدائي! فالعدائية تمتزج
بالأصالة وهي تقلق ما اعتاد عليه الناس من أفكار تكون القصة القصيرة تدريبات تسبق
الرواية عندما لا تكون قصة قصيرة، بمعنى ان النص لم يرتق بعد لصبح قصة قصيرة، إنما
هو نص يتأرجح ما بين الخاطرة والسرد المباشر، او الحكاية والوصف، ففي بناء القصة
القصيرة والقصيرة جدا يجب ان يؤدي حذف كلمة واحدة منها الى خلخلة البناء السردي
بأكمله” والمبدع الحقيقي في الق.ق.ج هو وحده من يمنح هذا النوع الادبي مشروعيته، وفرضه
بقوة على مستوى الساحة الادبية.
ـ القصّة القصيرة جدًا، أو ما تُسمّى ق.
ق. ج ، كيف ترينها،هل هي فنّ أدبي قائم بحدّ ذاته؟
*دعني أخبركم أن” الفن وحده ينقذنا من الجنون” وهذا ما
قالته الروائية غادة السمان” فالفن خطوة من خطى الطبيعة الى اللانهائية” كما يراه
جبران، والق.ق.ج هي فن القصّ، إنها من أصعب الأنواع الأدبية وأكثرها عمقا ومعرفة،
لها استقلاليتها التي
تؤكدها توالي النماذج الجيدة التي تكتبها، والنقد الذي يدرسها بجدية, إنها فنّ قائمّ بحد ذاته، فهي بمثابة انفجار كوني يضفي التمييز والاستثناء على موهبة المبدع.
تؤكدها توالي النماذج الجيدة التي تكتبها، والنقد الذي يدرسها بجدية, إنها فنّ قائمّ بحد ذاته، فهي بمثابة انفجار كوني يضفي التمييز والاستثناء على موهبة المبدع.
ـ هل يمكن أن تصنع القصة القصيرة جداً
أسماً لكاتب أو تبرز تميزه؟
*بكل تاكيد، وكما أسلفت سابقا وبما انها فن قائم بحد ذاته
من الممكن جدا ان تصنع أسما لكاتب لأنها ابداع استثنائي يحمل كل مقومات الفن، مفعم
بالعمق والفلسفة والسخرية اللاذعة، والنقد البناء… وإذا أردنا البحث في انطولوجيا القصة
القصيرة جدا سنجد العديد من الاسماء التي برزت في كتابة هذا الشكل من السرد، إذ
بدأ التأسيس لها اصطلاحيا في الادب الغربي ابتداءً من اوائل العقد الاخير من القرن
العشرين، وغن كان لهذا الشكل جذور قديمة تعود الى “خرافات ايسوب” وإلى” جولستان” لسعدي الشيرازي، أو هنري، وكافكا،
همنغواي، ليديا ديفير، خوليو كورتاثار، وآرثر كلارك، راي برادبري، وفردريك براون.
كما وكان لها انتشار في العالم العربي وخاصة سورية وفلسطين ومصر، فإلى جانب نجيب
محفوظ الذي كتب في هذه الشكل عمله” رأيتُ فيما يرى النائم” نجد ايضا
اسم زكريا تامر في أكثر من مجموعة له والكثير من الاجيال المتنوعة من المبدعين
والمبدعات في الوطن العربي، كان وما زال اهتمامهن واهتمامهم الاساسي بكتابة القصة
القصيرة جداً.
ـ غالباً ما نرى إقبال الناس في عالمنا
العربي على الكوميديا والتراجيديا أكثر من الإقبال على الثقافة الحقيقية ، بماذا
تفسرين ذلك؟
*”نحن ذلك الشعب المثقف الذي يمسح الزجاج بالجرائد،
ويقرأ من الفنجان” وقد صدق نزار قباني فيما قاله، فعالمنا العربي لم
يدرك الاحداث بعد، لأنه عالم أناني يتخبط في الموروث الديني، ينجذب الى مغناطيس
العادات والتقاليد، إنه عالم منغلق على ذاته، لا يتقبل الاخر فليس للمحبة محل من
الاعراب ومع الأعراب بمكان، لأن الثقافة الحقيقية هي ثقافة الانسانية أولاً
وآخراً، وفي هذا الصدد أقول: فالماء التي كونتنا عطشى للمحبة، ولن يطفئ ظمأها سوى
الانسانية الحقة،، والنور الكامن فيك لا يحتاج إلى غواصة، لأنه يطفو على سطح تلامس
وجهه أنامل الشمس والحياة، فلتكن عميقاً أعمق من عمق المحيطات حتى ترى نورك ويلمسه
الآخرون فيك.
ـ البعض يقول وبكل صراحة أن النقد في
سورية بشكل خاص وفي الوطن العربي بشكل عام هو نقد علاقات شخصية، وأنت ماذا تقولين،
وهل أخذت نتاجاتك الاهتمام والتقييم من النقاد السوريين؟
*حسب المثل الفرنسي القائل”إن الانتقاد سهل أما الفن فصعب” وان
الابداع لا وطن له كما يقول اندريه جيد، وأنا أقول ما قاله جون شتايبنك”أن الزمن
هو الناقد الوحيد الذي لا طموح له.”أما بالنسبة لنتاجاتي الأدبية فهي قيد
الطبع، وستصدر قريبا أولى مجموعاتي القصصية بعنوان( نجمة تبعثر تلاشيها)” فالإبداع
يأتي من الثقة.. ثق فر غرائزك ولا تأمل اكثر مما تعمل” ريتا براون.
ـ حدثينا عن إستراتيجيتك في القراءة
النقدية،وكيف تقرئين النصوص الأدبية من مسرح وقصة وشعر؟
*إن القراءة فعل وفاعل في ذات الوقت من خلالها يتحقق
النص، فعندما يمتص القارئ النصوص التي يقرؤها يكون اكثر”نصوصية” من النصوص. وكما نعلم ان العنوان هو أول
علامة سيميائية للنص، وهو اول مرحلة من مراحل التلقي، وقد عرّفه ليوهوك بأنه
مجموعة من العلامات اللسانية(كلمة، جملة،نص) التي يمكن ان تدرج على رأس نص لتحدده،
وتدل على مستواه العام وتعرّف الجمهور بقراءته” وقد أصبح العنوان علماً قائماً بحد ذاته يسمى
علة “العنونة” لأنه يؤدي دور المنبه في ايقاظ فعل القراءة، وأنا كمتلقي يؤجج العنوان في
داخلي شعلة الابداع في القراءة ودراسة النص، فأقرأ النصوص الأدبية قراءة ثقافية
عميقة، ومن العمق والإبداع في النص ينهمر يراعي بالكتابة مع النص وعنه،” فعلى
الانسان ان يكون مخترعا إذا أراد القراءة الجيدة” كما يقول رالف أمرسون.
ـ هل يعتبر التذوق الشخصي للنصوص الأدبية
أساس في كل دراسة نقدية ناجحة؟
*بكل تأكيد فالذوق عند المتصوفة يحتل مكانة متميزة في
الآداب والفنون، وهو لدى العارفين منزل من منازل السالكين، أنه أثبت
وارسخ منزلة من الوجد كما جاء في تاج العروس، وهناك ذوق سليم، وذوق فاسد بحسب ما قاله الأديب الفرنسي لابروبير، وقد عرّفه الدكتور جبور عبد النور” بأنه ملكة الاحساس بالجمال والتمييز بدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه وإصدار الحكم عليه” ومع الاستعانة بأية معارف أو علوم، وبالارتقاء بالثقافة وبالذائقة العميقة، وتراكم القراءات سيشعر القارئ بلذة النص.
وارسخ منزلة من الوجد كما جاء في تاج العروس، وهناك ذوق سليم، وذوق فاسد بحسب ما قاله الأديب الفرنسي لابروبير، وقد عرّفه الدكتور جبور عبد النور” بأنه ملكة الاحساس بالجمال والتمييز بدقة بين حسنات الأثر الفني وعيوبه وإصدار الحكم عليه” ومع الاستعانة بأية معارف أو علوم، وبالارتقاء بالثقافة وبالذائقة العميقة، وتراكم القراءات سيشعر القارئ بلذة النص.
ـ في السابق عندما كان الكاتب يصدر
كتابا، كان يخلق ضجّة ويثير العديد من الأسئلة، واليوم نرى أن بعض الكتّاب يصدرون
عشرات الكتب ولا أحد يسمع بهم أو بكتبهم. ما السبب برأيك؟
*”أنا أظن” كتب كافكا عام 1904 إلى صديقه اوسكار
بولاك” على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضه وتوخزه. إذا كان الكتاب الذي
نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جمجمتنا فلماذا نقرأ الكتاب إذاً؟ كي يجعلنا سعداء كما
كتبت؟ يا إلهي، كنا سنصبح سعداء حتى لو لم تكن عندنا كتب، كموت من نحبه أكثر مما
نحب أنفسنا الكتب التي تجعلنا نشعر وكأننا قد طردنا الى الغابات بعيداً عن الناس،
مثل الانتحار. على الكتاب ان يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا. هذا
ما أظنه”. ولأن الجميع في تهافت كي يصبح كاتبا ومؤلفا في فضاءات الأدب الرحبة، ولن دور النشر
تنشر أي عنوان ما دام المؤلف هو من سيتكفل بطلع كتابه، ها نحن اليوم نقف أمام” تلوث
إبداعي” وزيادة المعروض الأدبي وتراكمه كماً وليس نوعاً في عالمنا العربي تجعل “الأنا” عند البعض
تتضخم وتصبح كالبالونات المنفوخة أمام ما ينتجونه من كتب أغلبها لا تصلح ولا تفيد،
وظاهرة الكتب المترهلة والركيكة، السطحية منها والساذجة. وهي الظاهرة في ثقافتنا
العربية، وذلك يعود الى الاستسهال في الكتابة وبالتالي نرى سيلاً عارماً من
الرداءة، في ظل غياب حركة نقدية قوية تقف بالمرصاد لتغربل الجيد من الرديء.
– من أين تشكل عالمك القصصي، وما دور البيئة المحيطة
بكِ فيذلك؟
*يتشكل عالم القصص لديّ من ثلاثة أبعاد بيئية،
فأحيانا أكون أنا تلك البيئة التي أبني عليها قصصي، وفي احيان أخرى أبنيها من
البيئة المحيطة بي وهي الواقع الذي نعيشه ونتأثر به، والبيئة الثالثة هي مخيلتي
الخصبة التي أسبح في فضاءاتها واكتشف مكوناتها بمساعدة من القراءة المتواصلة
والبحث والتفكير العميق والغوص في اسرار الموت والحياة، وكي تكون مبدعا عليك ان
تأتي بقربة فارغة، وتنفخ فيها وتنفخ، وتظل تنفخ حتى تتجمع من أبخرتك غيومٌ تمطر
ماءً تملأ القربة وتروي الحياة.
ـ كل إنسان زائر في هذه الحياة، ثم يرحل
وتبقى كلماته ، ماذا تقولين في ختام هذا الحوار.. لك حرية الكلام؟
*لقد كان حواراً أسئلته عميقة حفزتني للغوص أكثر في
انطولوجيا القصة القصيرة والقصيرة جداً. وأخيراً وليس آخراً أقول: إن تمدد الجثة
وتحللها ما هو إلا احتجاجات الحياة على بشاعة الموت، والرائحة العفنة التي تخرج
منها ما هي إلا انتفاضات الجسد لمقاومة هذه البشاعة لكن الموت يأبى إلا أن يكون
استمراراً لمحبوبته الحياة، فيجعل من الجثة تراباً تنمو من حبيباته ورود وأشجار..
وتولد اللانهائيات.
عن الصدى نت
عن الصدى نت