أن تنادي الضابطة القضائية بفرنسا على الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي وتخضعه للحراسة النظرية من أجل استجوابه حول اتهامات بتلقيه أموال لتمويل حملته الرئاسية، من قِبل حاكم ليبيا الأسبق القذافي، تحول فيما كان يحوم حول الرئيس الأسبق من فساد مالي. كان موقع ميديا بارت Média Part الذي يديره للصحافي إيدي بلينيل Eddy Plenel، قد نشر قبل ست سنوات معلومات عن تلقي ساركوزي أموال من ليبيا في حملته الرئاسية، ولم يكن أحد يتوقع أن تتناسل الأحداث، ولا أن تفضي إلى تنصت وتتبع أفضيا إلى متابعة قضائية.
تتخذ القضية أبعادا متداخلة، تتجاوز فضيحة الرئيس الأمريكي نيكسون المعروفة بواتيركيت Watergate والتي كانت سببا في إقالته ومتابعته. تتداخل في قضية ساركوزي الجوانب القانونية والأخلاقية والسياسية وما يرتبط بها من أخلاقيات الدولة، وتداعيات تمويل من قبل دولة أجنبية في سباق رئاسي، والتأثير من ثمة في القرار السياسي وتوجيهه، والمساس بالتبعية بسيادة الدولة. لكن القضية لا تتوقف عن هذا الشق، لإن لها تداعيات تتجاوز فرنسا، منها ما هو ظاهر يهم أحد فصول الربيع العربي، أو فلنقل التدخل العسكري الفرنسي البريطاني لقصف القوات الليبية وهي قاب قوسين من إحكام قبضتها على بنغازي. هل كانت دواعي الرئيس الفرنسي الأسبق نبيلة، تقوم على معانقة مد شعبي، أم أن مردها الإجهاز على شاهد ثقيل وإقبار سره معه؟
تسلمت السلطات الفرنسية من لدن السلطات النرويجية، بدفتر كتب عليه بيانات بخط اليد، من قِبل من كان وزيرا للبترول شكري غانم، يشير فيه إلى اللقاءات التي تمت مع مسؤولين فرنسيين، وعلى تمويل الحملة الرئاسية الفرنسية
في العاشر من ديسمبر، أي ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، من سنة 2007 حل القائد الليبي السابق القذافي بالإليزيه حلول الأبطال، وفرض شروطه البروتوكولية، ومنها نصب خيمة في ساحة فندق مارينيي Marigny على مرمى حجر من الإليزيه. كان حدثا غير عادي لشخص كان منبوذا من قِبل الغرب، ضُرب على بلادة الحصار عقب تفجير طائرة بانام أو القضية المعروفة بلوكوربي، أن يَحل بعاصمة الأنوار وبلد حقوق الإنسان حلول الأبطال. لم يكن من حديث عن ليبيا آنذاك والذي استأثر باهتمام السفارات والإعلام سوى الحكم بالإعدام على ممرضتين بلغاريتين بتهمة تلويث الدم المحقن.
كانت حجة الرئيس الفرنسي ساركوزي لاستقبال القذافي، أنه ينبغي الحديث مع الجميع، وينبغي إنقاذ الممرضتين البلغاريتين. كان الظاهر من زيارة القذافي هي صفقات مالية، منها طائرات مدنية من طراز إيرباس، ومنها طائرات حربية من طراز رافال. أما الباطن، أي عمولات، وتمويل تحت الطاولة، فلم يكن ليظهر، آنذاك.
كان صاحب "المكرمة" في التقارب الليبي الفرنسي، هو الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين، وهو شخص له سجل حافل من الوساطات، ما بين فرنسا والسعودية، أيام شيراك. كان هو من ارتبط بمسؤول المخابرات الليبية عبد الله السنوسي. كانت ليبيا في مسيس الحاجة لتلميع صورتها وقد استخلصت العبرة مما وقع بالعراق وما حق بصدام حسين، ولم تكن تود أن تبقى في قائمة الدول المنبوذة، وكانت قد خرجت للتو من حصار أثّر سلبا على الوضع الاقتصادي والاجتماعي وتسبب في تأخير برامجها التنموية، مثلما كان القائد الليبي مهوسا في شأن خلافته، وكسب الغربيين لنقل المشعل لابنه سيف إسلام. من تلك الوساطة التي أبرمها زياد تقي الدين، تمخض أول سفر لنكولا ساركوزي سنة 2005 إلى طرابلس وهو إذاك وزير الداخلية، وتواترت بعدها الأسفار إلى ليبيا من قِبل مقربين من ساركوزي، هم الآن موضع متابعة قضائية.
وجرت مياه تحت الجسر ودخل وسيط آخر على الخط، فرنسي جزائري، مسمى جوهري، والملقب بألكسندر، على علاقات وطيدة مع أقطاب اليمين الفرنسي، وصداقة مع مدير ديوان الرئيس الفرنسي، كلود كيان Claude Guéant، وعلاقة وطيدة مع نظيره الليبي بشير صالح. سيصبح زياد تقي الدين متجاوزا، وهو ما سيحدو به لا حقا، إلى أن يفضح العلاقة المشبوهة، ما بين المسؤولين اللبيين والفرنسيين في خضم التنافس الرئاسي الفرنسي لسنة 2012.
قبل ذلك بسنة، وفي أوج الثورة الليبية التي اندلعت بتاريخ 17 فبراير 2011، وقد تقدمت قوات القذافي نحو بنغازي، حيث كان يتأهب لارتكاب مجزرة ضد الثوار، صرح ابن القائد الليبي، سيف إسلام إلى قناة أورونيوز، بأن ليبيا مولت الحملة الانتخابية للرئيس الفرنسي. تم وقف تقدم القوات الليبية من قبل قوات التحالف الدولي الذي أقرته الأمم المتحدة. في تلك الأثناء تم إخراج بشير صالح، برعاية من الوسيط ألكسندر الذي يتوفر على علاقات وطيدة على مستوى أصحاب القرار الفرنسي، وترحيله إلى النيجر، ومنه إلى جنوب افريقيا، حيث سيتعرض لمحاولة اغتيال. هل كان الرئيس الفرنسي ساركوزي يتصرف انطلاقا من مبادئ، وتطبيقا لقرارات دولية، أم انطلاقا من مصلحة شخصية بغطاء أممي؟
المعلومات التي تم تسريبها في الصحافة الفرنسية مقصودة، بناء عل معطيات دقيقة، هي نتاج تحري وتتبع. لقد كان الأظناء المتورطين في القضية بأمر من القضاء تحت التنصت، وكان يعسر على القضاة التأكد من التمويل لأن التحويلات تمت من خلال أموال سائلة، إلا أن العنصر الجديد، هو تسلم السلطات الفرنسية من لدن السلطات النرويجية، بدفتر كتب عليه بيانات بخط اليد، من قِبل من كان وزيرا للبترول شكري غانم، يشير فيه إلى اللقاءات التي تمت في ضيعة بشير صالح بضواحي طرابلس مع مسؤولين فرنسيين، وعلى تمويل الحملة الرئاسية الفرنسية. دقة الوزير في تقييد مجريات الأمور لم ينفعه لأنه سيلقى حتفه غارقا في نهر الدانوب في ظروف غامضة. لا يستبعد أن تأخذ القضية أبعادا جنائية حول "غرق" وزير البترول الليبي شكري غانم، وإطلاق النار على سيارة بشير صالح بجنوب افريقيا في محاولة اغتياله.
توقيف الوسيط ألكسندر في لندن هو المؤشر على تحول مجري التحقيق، وما ينذر بمعطيات جديدة. إنه فصل خطير في العلاقات الدولية، سيقلب كثير من التوجهات على أكثر من صعيد بفرنسا ويؤثر بالتبعية في علاقاتها مع العالم أو علاقات مسؤوليها بكثير من دول العالم الثالث.
المصدر: الجزيرة مدونات