-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

حوار المطابخ، في انتظار حوار الحضارات.: عزيز رزنارة


حوار المطابخ، في انتظار حوار الحضارات.
بمناسبة اليوم العالمي للتراث: 18 أبريل
من حسنات الغربة والاغتراب في دولة مثل الإمارات العربية المتحدة، تعدد الجنسيات والثقافات المتواجدة على نفس الرقعة الجغرافية مما يسمح بالتعرف على أنماط عديدة من العادات والتقاليد بعضها نستأنس به ونقبله ونتعايش معه مع مر الأيام، والبعض الآخر قد لا نستسيغه لأنه لا يوافق عاداتنا ومعتقداتنا. وفي كلتا الحالتين نكون على الأقل قد تعرفنا على معالم من ثقافات وحضارات أخرى.
وفي خضم صراع الغرب للتحكم في موارد العالم وخيراته، وإخضاع أغلب شعوب العالم الأخرى لاختياراته السياسية وخصوصا طموحاته الاستغلالية، ابتكر منظرو النظام العالمي الجديد نظريات عديدة لتبرير هذا السلوك العدواني تجاه طموحات الشعوب النامية، وظهرت إلى الوجود أفكار مثل "صراع الحضارات" التي أرادت أن تنظر للحرب القذرة التي يشنها الرأسمال الجشع لاستنزاف خيرات الأرض أينما كانت ورغم أنف أصحابها. ثم جاءت بعد ذلك نظريات مغايرة تدعو إلى السلم والتعاون بدل العنف والحرب، ومن أهمها نظرية أو دعوة "حوار الحضارات" والذي انبثقت عنه أشكال أخرى من الحوارات لتعزيز التفاهم بين شعوب الأرض مثل "حوار الأديان" وغيرها. وتتجلى ضرورة هذه الحوارات جليا في بناء علاقات الصداقة والتبادل بين الشعوب والثقافات المختلفة في زمن تكاثرت فيه النزاعات والتوترات التي في مجملها تحدث بسبب عدم تقبل الآخر وثقافته وتقاليده.
إلا أن نموذج الإمارات والمجتمعات المشابهة في منطقة الخليج العربي والتي تضم أطيافا عديدة من القوميات والجاليات في رقعة جغرافية محدودة تشكل فضاء استثنائيا لتجريب وممارسة بعض أشكال الحوار بين هذه المكونات الإثنية لساكنة المنطقة. وبعض هذه الأشكال من الحوار قد نمارسها يوميا وبدون شعور منا وذلك عبر تعاملنا ومعاملاتنا مع افراد من ثقافات مختلفة. وأعتقد شخصيا، وبالنظر إلى تجربتي لما يربو عن عقدين من الزمن في دولة الإمارات، أن أبلغ حوار يمكن عبره الوصول إلى بعض خبايا ومعالم الثقافات الأخرى المتعايشة معنا في نفس الفضاء الاجتماعي، هو بالتأكيد "حوار المطابخ". إذ قد تكون اللغة حاجزا مهما للتفاهم والتبادل أو الاطلاع على بعض الإبداعات الأدبية لهذه الثقافات، ولكن الأكل لغة تفهمها جميع الأفواه والبطون شرقية كانت أم غربية، أو شمالية كانت أم جنوبية. ومن خلال هذا "الحوار" اللذيذ، تعرفت على ثقافات أخرى دفعني اكتشاف مطبخها إلى الغوص في مجالات أخرى من معالمها مثل الموسيقى والمسرح والأدب والفنون التشكيلية، عملا بالقول المأثور عندنا، والذي اكتشفت أن له أمثلة مشابهة لدى الأمم الأخرى، ومفاده: "إذا شبعت البطن، تقول للرأس: غني".
وقد كانت دورات "أيام الشارقة التراثية" دائما مسرحا لهذا "الحوار اللذيذ" نظرا لتواجد أنواع مختلفة من مطابخ الجاليات المقيمة بالدولة والمشاركة في فعاليات هذا المهرجان الثقافي الرائد. فإلى جانب الأكلات الشعبية الإماراتية تعرض كذلك بعض الأروقة أكلات عديدة من دول أخرى مشاركة: الهند، باكستان، أفغانستان، إيران، عمان، لبنان، مصر، سوريا، وغيرها. ورغم أن تواجد المطبخ المغربي حديث نسبيا في هذه المنطقة، إلا أنه استطاع أن يوجد له مكانة متميزة في لائحة المطابخ المتواجدة في الدولة وخصوصا بين مطابخ العالم العربي. ويظهر جليا التأثير القوي للمطبخ التركي العثماني على أغلب مطابخ العرب في المشرق، نظرا للهيمنة السياسية والاجتماعية التي فرضها عبر التاريخ تواجد الدولة العثمانية في المشرق العربي وحتى حدود شرق المغرب، الذي يعتبر البلد العربي الوحيد الذي لم يكن تحت الإدارة العثمانية. وأغلب الأطباق اللبنانية والسورية الشهيرة ما هي إلا نماذج من أطباق تركية عثمانية تحمل أحيانا نفس الاسم. بينما يستمد المطبخ المغربي جذوره من 3 عناصر إثنية محلية شكلت التركيبة البشرية والثقافية التي عرفها المغرب على مر العصور. وهذه العناصر الثلاثة: العنصر الأمازيغي، العنصر اليهودي وأخيرا العنصر العربي الأندلسي. هذه الجذور المتنوعة كونت بوتقة انصهرت فيها مختلف ثقافاتها وتقاليدها لتشكل الهوية المغربية التي حرصت دائما على إظهار هذا التنوع العرقي والثقافي بمثابة غنى وثراء حضاري لا مثيل له. هذه الخصوصية المغربية هي التي جعلت المطبخ المغربي يتبوأ مكانة عالمية شهد له بها كبار المتخصصين في شؤون الطبخ والمطابخ. وتكفي الإشارة إلى أنه رغم حداثة تعرف منطقة الخليج على المطعم المغربي، إلا أن جل الفنادق والمطاعم الراقية بها صارت تحرص على تضمين لائحة مأكولاتها بعض "الشهيوات" المغربية وأهمها على الإطلاق: الطاجين المغربي بكل أشكاله، والكسكسي وأنواع أخرى. كما أن أغلب مقاهي الدولة توفر الآن ما تسميه "الشاي المغربي" بدلا من "الشاي بالنعناع" كما كان يعرف سابقا في أوربا مثلا. وهكذا فإن العديد من زوار الدولة أو المقيمين بها لم يسمعوا سابقا بالمغرب ولم يتعرفوا عليه إلا عن طريق طبق شهي أو براد شاي منعنع، لذا كنت دائما أحرص على اعتبار المطبخ المغربي أفضل ديبلوماسي للثقافة المغربية.
ومن أجمل صور هذا "الحوار اللذيذ" بين الحضارات والتي عشتها خلال إحدى دورات أيام الشارقة التراثية مشهد فتاتين من مواطني الدولة وهما تقفان عند بائع حلويات مغربي كنت أنتظر دوري أمامه لكي يعد لي "مسمنة" مغربية (فطيرة)، واستغربت إحداهما أن المغاربة لديهم نفس الأكلة التي لدى الهنود، فقالت تشرح لصديقتها الأمر بجملة عفوية راقت لي :" هادي بوراتا مغربية". و"البوراتا" هو الاسم الذي يطلقه الهنود على نفس الأكلة التي تكون عموما دائرية الشكل مثل "الملاوي" عندنا. والغريب أن أغلب زبناء بائع "البوراتا المغربية" كانوا من الهنود الذين اكتشفوا متعة إضافة الجبن والعسل على "البوراتا" وأكلها مع جرعات من كأس شاي بالنعناع الأخضر.
في بداية تواجدي بالدولة كانت لدي تجارب مريرة مع بعض الأطعمة وخصوصا الهندية منها. كما أني لم أستطع خلال سنوات عديدة من بلع ولو لقمة صغيرة من "التبولة" اللبنانية. ولكني اكتشفت مع الأيام طريقة سحرية لإضافة مسحة من "المغربة" على هذه الأطعمة وصارت تشكل منذ ذاك الوقت جزءا من غذائي. اكتشفت بأن أي أكلة لا أستسيغها يمكن أن تصبح مقبولة في معجمي الغذائي إذا أصفت لها بعضا من "زيت الأركان". وهكذا، فإن "التبولة" بزيت الأركان لها طعم لا يقاوم، وأتمنى أن يكتشف اللبنانيون والسوريون ذلك، وهذا موضوع مهم للحوار اللذيذ. كما أن "البرياني" الهندي الباكستاني أو "المندي" اليمني أو "الكبسة" السعودية أو "المقلوبة" الفلسطينية كلها تستحيل بلمسة خفيفة من "زيت الأٍركان" إلى أكلة تؤكل من ورائها الأصابع كما يقال.
هل من حوار أجمل وألذ من هذا النوع من تلاقح البهارات والخلطات المطبخية؟
عزيز رزنارة
الشارقة في 18 أبريل: اليوم العالمي للتراث

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا