صوت القطار يتهادى على رصيف محطة دمنهور، باعة فقراء ينادون من يبيع الذرة المشوي، يقف أحد الباعة أمام رجل من علية القوم تبدو عليه الفخامة والبشاوية – في ذلك الزمن- يشتري كوز ذرة، يعبر البائع شريط القطار، فيلمح وجهًا لصبي يعرفه جيدًا، يسقط كوز الذرة من يده، ثم ينادي "تعال يا- جو - تعال تعال"، يقف الصبي دموعه تتساقط؟ يسأل نفسه معقول – الزمن يتوقف لحظات تساوي – سنوات - هل هو الباشا النائب زميل المرحوم والدي الثري الراحل؟
يرد الثري نعم ياجو تعال يابني ماذا حدث؟ كيف تعمل عطاشجي في سكة حديد دمنهور؟ أين ملايين والدك؟ أين الأطيان والعمارات؟ يرد الصبي - ذو السبعة عشر عامًا - مات والدي في أزمة قلبية مفاجئة، وقد بيعت كل ممتلكات العائلة العريقة في البورصة، ثم يرد النائب هل تحتاج إلى مال؟ إن والدك صاحب فضل كبير علينا.. لكن الشاب يصمت ويرفض بكل عزة كل عروض النائب الذي لم يجد في نهاية الأمر سوى نقل الشاب لعمل آخر في إحدى مكتبات مدينة دمنهور؛ حيث وجد الشاب نفسه ذات يوم مطلوبًا أمام ناظر محطة السكة الحديد، وقال له لقد تكرر نقلك إلى مكتبة دمنهور للعمل هناك، وأصبحت على ذمة المكتبة.
يصمت الشاب ثم يكاد يبكي، وهويقول يا حضرة الناظر أهلي هناك، ولا أريد أن يراني أحد من أصحابي القدامى أيام الغنى والعز والجاه، أنا هنا مرتاح جدًا، ولا يعرفني أحد، يرد الناظر بحدة هذا قرار من ناس مهمة، وشديدة القدرة على التنكيل بي، وأنا ياولدي أريد لك كل خير، والله سوف يكون حليفك في عملك الجديد.
خرج الشاب من مكتب ناظر محطة دمنهور وهو يضرب كفًا بكف يا ربي كيف أعمل في مكتبة؟ لو كنت أملك قوت يومي أو حتى تعلمت حرفة الزراعة كان حالي أفضل، لله الأمر من قبل ومن بعد، وخلاص أعمل إيه مفيش قدامي غير وظيفة المكتبة.. ربنا يستر.
في اليوم التالي دخل الشاب المكتبة للعمل مجرد فراش يكنس وينظف المكتبة والكتب من الساعة الثامنة صباحًا وحتى السادسة كل يوم؟ من دون مقدمات يقول مدير المكتبة بطريقة مستفزة أنت عارف شغلك كل يوم ترش قدام المكتبة وتمسح البلاط، ولو وجدت كتابًا واحدًا عليه غبار سوف أطردك!! يرد الشاب وقد تجمدت الدماء في عروقه، ويقول حاضر يا حضرة المدير كلام حضرتك أوامر.
وصباح اليوم التالي دخل الشاب المكتبة ونفذ كل أوامر المدير وجلس حتى سمع المدير يقول أنا ماشي، وإنت مكاني كل يوم، ولو حد سأل عليا قول في الحمام العمومي، أو تقول بيصلي.. مفهوم؟!
يرد حاضر ياسعادة المدير، يقوم الشاب ينظر على الكتب يرى صور الأغلفة، وهو يكاد يبكي من شدة الموقف الذي فيه، تدخل فتاة المكتبة، وتقول له هات كتاب الأيام للدكتور طه حسين؟
يرد الشاب حاضر، ثم يحضر كتابًا، فتقول له إنت مبتفهمش، ومبتعرفش تقرا ومشغلينك في مكتبة، إيه البلاوي دي.. مش عيب تبقى شحط كده وجاهل؟!
يصمت الشاب في لحظة، ثم يجد نفسه ينظر للكتب ويقول فعلاً عندها حق أنا أعمى، لازم أتعلم القراءة والكتابة!! ويقرر في نفس اليوم العثور على مدرس كان يعلم في عائلة بجوار عزبتهم السابقة، وأصبح يوميًا يتعلم القراءة بسرعة شديدة، ثم واصل تعلم اللغة، وخلال عام واحد كان قد أتقن اللغة العربية تمامًا، وأصبحت كتب المكتبة غذاء الروح له، ونهل كل كتب العقاد وطه حسين، وقرر تعلم اللغة الإنجليزية، وخلال ثلاثة أعوام صار على دراية كاملة بكل أدباء ونجوم عصره، ثم من دون مقدمات وجد نفسه يكتب القصص بخط جميل، وفعلا كتب مجموعة قصصه في كراسة، وقرر أن يرسلها للدكتور طه حسين شخصيًا، ومرت الأيام والشاب ينهل من المسرح الإنجليزي أعمال شكسبير.
وذات يوم وجد سيارة فخمة تقف أمام المكتبة وينزل منها السائق، ويقول هل تعرف واحد اسمه أمين يوسف؟ فقال له نعم أنا؟ فقال له السائق تعالى معايا الدكتور طه حسين عاوزك النهاردة؟ يكاد الشاب يغمى عليه من شدة الصدمة، صار يكلم نفسه طه حسين بنفسه؟ ركب السيارة التي انطلقت مسرعة حتى وصلت إلى مقر مجمع اللغة العربية – مجمع الخالدين – يستقبله الدكتور طه حسين قائلا بصوته الرخيم تعالى يايوسف!!
يدخل يوسف وهو يحتضن العميد ويبكي، ويصرخ ويقول: "أنا كنت بشوف حضرتك صورتك على غلاف كتبك، وحضرتك السبب إللي غير حياتي، وقص عليه حكايته، فقال له العميد العظيم: إنت موهوب يايوسف، وقد قررت طبع مجموعتك القصصية، وسوف تترجم إلى الفرنسية بواسطة صديق لي في السربون!! سوف تصبح من أهم كتاب مصر ياجو!! وفي اليوم نفسه يلتقي أستاذ الجيل لطفي السيد رئيس مجمع اللغة العربية، ثم يحصل على جائزة الدولة في الآداب، ويصبح أمين يوسف غراب من أهم كتاب مصر والعرب؛ بسبب موقف طه حسين معه، وتترجم أعماله إلى الإنجليزية والألمانية بتشجيع من العميد الدكتور طه حسين!!
ويقدم يوسف غراب قصة فيلم شباب امرأة ويحصل على جائزة من مهرجان برلين السينمائي، ويقدم بعدها عدة أعمال، صارت جزءًا عبقريًا من تاريخ مصر وقوتها الثقافية في محيطها العربي..
والسؤال: من منكم يفعل حاليًا مثل طه حسين؟ لو فعلتم ستجدون ألف يوسف غراب، فمصر المحروسة لا تتوقف عن الإبداع.
الأنطلوجيا
يرد الثري نعم ياجو تعال يابني ماذا حدث؟ كيف تعمل عطاشجي في سكة حديد دمنهور؟ أين ملايين والدك؟ أين الأطيان والعمارات؟ يرد الصبي - ذو السبعة عشر عامًا - مات والدي في أزمة قلبية مفاجئة، وقد بيعت كل ممتلكات العائلة العريقة في البورصة، ثم يرد النائب هل تحتاج إلى مال؟ إن والدك صاحب فضل كبير علينا.. لكن الشاب يصمت ويرفض بكل عزة كل عروض النائب الذي لم يجد في نهاية الأمر سوى نقل الشاب لعمل آخر في إحدى مكتبات مدينة دمنهور؛ حيث وجد الشاب نفسه ذات يوم مطلوبًا أمام ناظر محطة السكة الحديد، وقال له لقد تكرر نقلك إلى مكتبة دمنهور للعمل هناك، وأصبحت على ذمة المكتبة.
يصمت الشاب ثم يكاد يبكي، وهويقول يا حضرة الناظر أهلي هناك، ولا أريد أن يراني أحد من أصحابي القدامى أيام الغنى والعز والجاه، أنا هنا مرتاح جدًا، ولا يعرفني أحد، يرد الناظر بحدة هذا قرار من ناس مهمة، وشديدة القدرة على التنكيل بي، وأنا ياولدي أريد لك كل خير، والله سوف يكون حليفك في عملك الجديد.
خرج الشاب من مكتب ناظر محطة دمنهور وهو يضرب كفًا بكف يا ربي كيف أعمل في مكتبة؟ لو كنت أملك قوت يومي أو حتى تعلمت حرفة الزراعة كان حالي أفضل، لله الأمر من قبل ومن بعد، وخلاص أعمل إيه مفيش قدامي غير وظيفة المكتبة.. ربنا يستر.
في اليوم التالي دخل الشاب المكتبة للعمل مجرد فراش يكنس وينظف المكتبة والكتب من الساعة الثامنة صباحًا وحتى السادسة كل يوم؟ من دون مقدمات يقول مدير المكتبة بطريقة مستفزة أنت عارف شغلك كل يوم ترش قدام المكتبة وتمسح البلاط، ولو وجدت كتابًا واحدًا عليه غبار سوف أطردك!! يرد الشاب وقد تجمدت الدماء في عروقه، ويقول حاضر يا حضرة المدير كلام حضرتك أوامر.
وصباح اليوم التالي دخل الشاب المكتبة ونفذ كل أوامر المدير وجلس حتى سمع المدير يقول أنا ماشي، وإنت مكاني كل يوم، ولو حد سأل عليا قول في الحمام العمومي، أو تقول بيصلي.. مفهوم؟!
يرد حاضر ياسعادة المدير، يقوم الشاب ينظر على الكتب يرى صور الأغلفة، وهو يكاد يبكي من شدة الموقف الذي فيه، تدخل فتاة المكتبة، وتقول له هات كتاب الأيام للدكتور طه حسين؟
يرد الشاب حاضر، ثم يحضر كتابًا، فتقول له إنت مبتفهمش، ومبتعرفش تقرا ومشغلينك في مكتبة، إيه البلاوي دي.. مش عيب تبقى شحط كده وجاهل؟!
يصمت الشاب في لحظة، ثم يجد نفسه ينظر للكتب ويقول فعلاً عندها حق أنا أعمى، لازم أتعلم القراءة والكتابة!! ويقرر في نفس اليوم العثور على مدرس كان يعلم في عائلة بجوار عزبتهم السابقة، وأصبح يوميًا يتعلم القراءة بسرعة شديدة، ثم واصل تعلم اللغة، وخلال عام واحد كان قد أتقن اللغة العربية تمامًا، وأصبحت كتب المكتبة غذاء الروح له، ونهل كل كتب العقاد وطه حسين، وقرر تعلم اللغة الإنجليزية، وخلال ثلاثة أعوام صار على دراية كاملة بكل أدباء ونجوم عصره، ثم من دون مقدمات وجد نفسه يكتب القصص بخط جميل، وفعلا كتب مجموعة قصصه في كراسة، وقرر أن يرسلها للدكتور طه حسين شخصيًا، ومرت الأيام والشاب ينهل من المسرح الإنجليزي أعمال شكسبير.
وذات يوم وجد سيارة فخمة تقف أمام المكتبة وينزل منها السائق، ويقول هل تعرف واحد اسمه أمين يوسف؟ فقال له نعم أنا؟ فقال له السائق تعالى معايا الدكتور طه حسين عاوزك النهاردة؟ يكاد الشاب يغمى عليه من شدة الصدمة، صار يكلم نفسه طه حسين بنفسه؟ ركب السيارة التي انطلقت مسرعة حتى وصلت إلى مقر مجمع اللغة العربية – مجمع الخالدين – يستقبله الدكتور طه حسين قائلا بصوته الرخيم تعالى يايوسف!!
يدخل يوسف وهو يحتضن العميد ويبكي، ويصرخ ويقول: "أنا كنت بشوف حضرتك صورتك على غلاف كتبك، وحضرتك السبب إللي غير حياتي، وقص عليه حكايته، فقال له العميد العظيم: إنت موهوب يايوسف، وقد قررت طبع مجموعتك القصصية، وسوف تترجم إلى الفرنسية بواسطة صديق لي في السربون!! سوف تصبح من أهم كتاب مصر ياجو!! وفي اليوم نفسه يلتقي أستاذ الجيل لطفي السيد رئيس مجمع اللغة العربية، ثم يحصل على جائزة الدولة في الآداب، ويصبح أمين يوسف غراب من أهم كتاب مصر والعرب؛ بسبب موقف طه حسين معه، وتترجم أعماله إلى الإنجليزية والألمانية بتشجيع من العميد الدكتور طه حسين!!
ويقدم يوسف غراب قصة فيلم شباب امرأة ويحصل على جائزة من مهرجان برلين السينمائي، ويقدم بعدها عدة أعمال، صارت جزءًا عبقريًا من تاريخ مصر وقوتها الثقافية في محيطها العربي..
والسؤال: من منكم يفعل حاليًا مثل طه حسين؟ لو فعلتم ستجدون ألف يوسف غراب، فمصر المحروسة لا تتوقف عن الإبداع.
الأنطلوجيا