كلما خضنا نقاشا حول قضية من قضايا المجتمع المغربي - التي لها علاقة بنصوص الدين - إلا وقيل لنا لستم من "أهل الاختصاص"، دون أن ينتبه أصحاب هذا الرأي إلى أن جميع القضايا التي نتناولها هي قضايا حقوقية محضة، نخوض فيها بصفتنا فاعلين مدنيين حقوقيين، أي أنها في عمق "اختصاصنا"، لكن يبدو أن هؤلاء يعتبرون الدين مجالا مستثنى من حقوق الإنسان.
وسوف نغضّ الطرف عن العنف اللفظي والاتهامات التي لا تجدي نفعا لأنها غير ذات موضوع، كما أنها زيغ عن منطق الحوار والتبادل الذي نعمل على ترسيخه لدى مواطنينا في بلدنا المغرب.
والواقع أننا إذا اعتمدنا منطق هؤلاء فسيكون علينا أن نسكت عن جميع أنواع المظالم التي تقع في المجتمع، بعذر أنها مرتبطة بالدين الذي هو شأن "أهل الاختصاص" ، وطبعا كلما انتظرنا من "أهل الاختصاص" هؤلاء أن يقدموا حلولا عملية للمشاكل التي نطرحها ويطرحها الواقع المتجدد، لم يعيرونا أي اهتمام بحُجة أن ما يجري هو من "تقاليدنا العريقة" ومن "ثوابت الأمة" التي لا يجوز إعادة النظر فيها لارتباطها بنصوص "قطعية الدلالة"، وهكذا نظلّ ندور في حلقة مفرغة، ونجتر تخلفنا المحروس والمراقب بإحكام.
إن مشكلة "أهل الاختصاص" هؤلاء أنهم يريدون احتكار فهم الدين وتفسيره وتأويله دون أن يقدموا للناس أجوبة شافية على الأسئلة التي يطرحونها، بل أحيانا ما يقدمون للناس أجوبة تتعارض مع القانون، ومع منطق الدولة، وتراهم ينزعجون بعد ذلك أشدّ ما يكون الانزعاج عندما ينصرف عنهم الناس بحثا عن حلول في مرجعيات ومصادر أخرى، كالقانون الوضعي وحقوق الإنسان والفكر العلمي، فالكثير من الأشياء التي تم العمل بها في الدولة والمجتمع على مدى القرن الماضي كله كانت عبر التجاهل التام لـ"أهل الاختصاص"، فقد حرّموا البنوك ففتح بها الناس أرصدتهم ودارت بها عجلة الاقتصاد الوطني كما في جميع دول العالم، وحرّموا تمدرس الفتاة وخروج المرأة من البيت والاختلاط مع الرجال فأقبل الناس على تدريس بناتهم حتى حققن التفوق بنسبة 63 في المائة مقارنة بالذكور، ورفضوا تعديل مدونة الأسرة لأكثر من مرة فكانت التعديلات المتعاقبة، وحرّموا اللباس العصري فارتداه الناس وانتشر انتشار النار في الهشيم، وحرّموا المسرح والتمثيل فازدهر وتكاثرت فرقه، وحرّموا الغناء فافتتن به الناس وتهافتوا على نجومه ونجماته، وحرموا الهاتف فصاروا لا يستغنون عنه، وحرموا السباحة ولباس البحر فاكتظت الشواطئ بالناس رجالا ونساء ، ومؤخرا فقط سُئلوا عن حرية المعتقد فقالوا "من بدل دينه فاقتلوه"، فكان أن بادرت الدولة بالتوقيع على احترام حرية المعتقد،،، وقبل كل هذا كانوا قد حرموا الشاي فصاروا من أكبر شاربيه والمدمنين عليه.
ماذا لو انتظرنا رأي "أهل الاختصاص" لكي نعرف ما علينا عمله ؟
ومن الأخطاء التي يقع فيها أصحاب المرجعية الدينية أنهم يعتقدون بأن قواعد التفكير التي ورثوها عن فقهاء الماضي البعيد ما تزال صالحة، ولهذا يدخلون تلك القواعد الفقهية ضمن "العلم بالدين"، وهم لا ينتبهون إلى أننا لو اتفقنا معهم على نفس قواعد التفكير والعمل التي هي قواعد بشرية تعود إلى أزيد من ألف عام، لانتهينا معهم إلى نفس النتائج، فمن يفكر تفكير الفقهاء بنفس المنطلقات ومنهج النظر لا بدّ أن ينتهي إلى نفس النتائج، والتي نعلم أنها نتائج تعدّ اليوم متجاوزة بحكم ما حدث في الفكر البشري من ثورات وما عرفه الواقع الإنساني من انقلابات هائلة، جعلت تلك القواعد غير كافية للإحاطة بالواقع وتدبيره وضمان كرامة الإنسان المواطن وحقوقه الأساسية.
وما دمنا في سياق النقاش الدائر حول "صحيح البخاري"، فيمكن أن نقدم من خلاله مثالا على ما نقول حتى تتضح الرؤية، فالفقهاء ومشايعوهم ما زالوا يحتفظون بالبخاري ويقرءونه كما قرأه القدماء، لأنهم احتفظوا معه بنفس منهج النظر الذي هو منهج "التعديل والتجريح" وفحص السند والنبش في أخبار الرواة، وهو منهج قاصر ومليء بالثغرات مما أدى بالبخاري إلى قبول الكثير من الأخبار المنسوبة إلى النبي بالرواية الشفوية على أنها أخبار يقينية صحيحة، رواها أناس "ثقاة" ، وهي أخبار بُنيت عليها فيما بعد ـ وهذا هو الأخطر ـ قوانين لتدبير شؤون المجتمع الإسلامي عبر قرون طويلة، بينما هي أخبار لا يحتاج المرء إلى كبير عناء للكشف عن عدم معقوليتها، بل وعن إساءتها للدين ولشخص النبي.
فقد أقصيت المرأة مثلا من تولي مناصب الدولة والخروج للتعلم اعتمادا على أحاديث وردت في البخاري وغيره اعتبرت "صحيحة"، وهي تتضمن إهانة كبيرة للنساء واحتقارا لهن، وهي اليوم نصوص لم يعد يعمل بها أحد، لكننا نُسائل حولها "أهل الاختصاص" لنعرف سر تمسكهم بـ"صحتها" من خلال استمرارهم في تقديس البخاري، واعتباره "أصح كتاب بعد كتاب الله" (كذا !)، ومن هذه الأحاديث "لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة"، وكمثل "لا تصحّ صلاة امرئ مرّ أمامه كلب أو حمار أو امرأة"، وكمثل "النساء ناقصات عقل ودين"، وكمثل "كمثل "لا تُسافر المرأَة إِلا مع ذي مَحْرَمٍ"، وكمثل "تصدقن وأكثرن من الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار"، وغيرها من الأحاديث التي نُسبت إلى النبي بعد 200 عام من وفاته واعتبرت "صحيحة" فقط بإسنادها في الرواية الشفوية دون النظر إلى مضمونها ومدى مطابقته للواقع وللمنطق.
على "أهل الاختصاص" إذن ومشايعيهم أن يدركوا بأن جوهر اختلافنا ليس في معرفة نصوص الدين أو عدم معرفتها، بل هو في منهج التفكير من جهة، وفي مقدار الإلمام بالواقع الإنساني الراهن واعتباره، وبعلوم عصرنا ومعارفه التي لا غنى عنها في أي مجال من المجالات.
إن كوننا لسنا من "أهل الاختصاص" في الدين أي لسنا فقهاء، لا يعني أننا لا نعرف كيف نستعمل عقولنا بشكل سليم، كما لا يعني أننا نعجز عن التمييز بين الخير والشر، بين الواقع والخيال، بين المشاعر العاطفية والحقائق العلمية، ولا يعني على الإطلاق من جانب آخر أننا لا نعرف دستور بلدنا والتزامات دولتنا المغربية. ولهذا فمن واجب "أهل الاختصاص" في الدين أن يصحّحوا أخطاءنا وأن يعلنوها حتى نكون على بينة منها. وحيث أنه لا أهلية لنا في نقد البخاري، فإننا نختم بسؤالهم عن حديثين كي يشرحوهما لنا على سبيل المثال لا الحصر، الأول يقول "اقتلوا الكلب الأسود" والثاني يقول إنّ "