مصطلح العلمانية في مفهومه الاجتماعي والسياسي الشائع بما يقتضيه فصل الدين عن الدولة مع ترك حرية العقيدة كحق إنساني للفرد بدون تدخل من المجتمع أو القانون ... مصطلح ظهر لأول مرة في العصر الحديث عام 1851، لكن كانت له مقدمات كثيرة على يد فلاسفة عصر التنوير في القرن السابع عشر والثامن عشر في أوروبا.
الفيلسوف البريطاني جورج هوليوك (1817-1906) هو من صاغ المصطلح في ورقة علمية تحت عنوان The Reasoner أو (الُمفكر بالحجة)
صياغة جورج هوليوك لمصطلح العلمانية الحديث لا يعني بالضرورة أن العلمانية قيمة تغريبية بل يعني أن هناك بلاد سباقة في مواجهة التسلط الديني، وصياغة المصطلح لا تعني أن الفكرة وليدة المصطلح. فالجاذبية الأرضية موجودة قبل أن يكتشف نيوتن معادلتها، والقارة الأمريكية كانت موجودة قبل أن يكتشفها كولومبس والفضاء الخارجي كان موجودًا قبل برامج غزو الفضاء.
نالت العلمانية من نقاشات المفكرين الكثير من الوقت في العالم العربي، مجرد نطق الكلمة كان مثارًا للجدل، وهل ُتنطق العلمانية بفتح العين أم بكسرها؟
هذا النقاش لم يكن مجرد سفسطة مفكرين يعيشون في أبراج عاجية، بل كان في صميم القضية والمفهوم وكان ضروريًا لحل إشكالية المعنى المبهم للعلمانية.
عين فاتحة عا.. كان عنوان مقال للمفكر المصري د. زكي نجيب محمود (1905-1993) في ثمانينيات القرن الماضي، شرح فيه الأصل والمشتق اللغوي لكلمة العلمانية بفتح العين نسبة للعالم الذي نعيش فيه، وبالتالي ما يتبعه من متغيرات في الزمان والمكان، وليس بكسر العين نسبة للعلم كما تراءى لبعض المفكرين في محاولة منهم لكسب شعبية لمصطلح العلمانية الذي تم تشويهه بأقلام وألسنة الأصوليين.
اعتقد البعض أن ترويج المصطلح نسبة للعلم، سيتناسب مع دعوات الدولة المؤمنة التي يقوم أساسها على العلم والإيمان وبالتالي قد تحظى بشعبية تقف حيال التشويه الممنهج للكلمة على اعتبار أنها كفر وبهتان عظيم. منفصلة عن واقعه المعاصر.
الفيسلوف والمفكر المصري د. مراد وهبة (1926- .. )، فكك المصطلح في أكثر من مناسبة ومقال وملتقى فكري في منتدى ابن رشد الذى أسسه قبل أكثر من ثلاثين عامًا. كما شرحه تفصيلا في كتاب الأصولية والعلمانية الذي صدر عام 1995، وأرجع فيه د. وهبة المصطلح إلى أصوله اللاتينية من خلال saeculum أي العالم الذي ينطوي على مفهوم الزمان، وmundus أي العالم الذي ينطوي على مفهوم المكان.
بشكل مبسط بعيد عن تقعرات الفلسفة، نحن نعيش ليس فقط في زمن مختلف عن الزمن الذي شهد بدء رسالة الإسلام، بل نحن نعيش في بيئة مكانية مختلفة تمامًا، نحن لا نعيش في الصحراء، فالسارق لا يمكننا قطع يده، لأن قانون العقوبات الحديث حل هذه المشكلة بعيدًا عن التشويه الأبدي، فأصبحت السجون ومدة العقوبة حسب الفعل هي جزاء الخروج عن القانون.
أحد أشكال العلمانية هو تحرر القانون من سلطة رجل الدين أو سلطة المشرع الديني أو سلطة النص الديني، ولدينا نماذج عديدة وكثيرة على تشريعات علمانية ومنها:
منع الجزية: بالرغم من وجود آية قرآنية صريحة تقرها (سورة التوبة الآية 29) اتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾، و بالتالي فإن منع الجزية كان تشريعًا علمانيًا .
المساواة في التعويض المادي في قانون العقوبات تشريعا علمانيا لأنه أقر مبدأ المساواة ولم يعترف بأن دية المرأة نصف دية الرجل
تجريم سبي النساء وتحريم ملك اليمين كان أيضا تشريعًا علمانيًا، فملكات اليمين منصوص عليها في القرءان والسبي كان متعارفًا عليه بين 2 و9 هـ، وهي حقبة الغزوات الإسلامية الأولة في عصر النبوة. لكن لم يعد لدينا غزوات قبائلية ولا نسكن الصحراء والإغارة على الآخرين واتخاذ غنائم أصبح في ُعرف اليوم خروج عن القانون لأن الظروف الزمانية والمكانية اختلفت، ومن هذه النقطة يمكننا الانطلاق في تناول قضية مثل (قضايا الطاعة والنشوز التي بلغت في مصر في عام واحد 67 ألف قضية)، فلم تعد هذه القضايا ولا قانون الطاعة والنشوز مناسبا لهذا العصر، لأن هذه القوانين قائمة على فكرة تكفل الرجل بالمرأة في مقابل الطاعة، وعالم اليوم تغير عن البيئة والزمن التي عرفت الطاعة والنشوز.
ولنا أن نعلم أيضا أن قوانين مثل تطوير الهندسة الوراثية أو تنظيم نقل الأعضاء (بالرغم من وجود مادته دستوريه تقره) ينتظر المباركة الإلهية من لجنة الشؤون الدينية في مجلس النواب، أي أن التشريعات العلمانية هنا تريد الانتصار للإنسان ليس السماء، وهنا فحوى العلمانية، أنها تضع مصلحة الإنسان على الأرض كأولوية وتحميه من امتلاك رجال الدين والقانون الحقيقة المطلقة في صورة قانون شرعي!.
الدين (ثابت) لا يمكن تغيير نصوصه (هي نصوص تاريخية أيضا لا يمكن العبث بها ولا سنكون مثل من زيف التاريخ) لكن يمكن فصل التشريعات المدنية عن النصوص الدينية وتأويلاتها (لخدمة الإنسان) علما بأن العلمانية ليست ضد اختياراتك العقائدية لكن ضد فرضها على الآخرين، وليست ضد حريتك الشخصية وإنما ضد فرضها على الآخرين.
هذه مجرد نماذج قريبة على سبيل المثال لا الحصر في معركة الحداثة ضد الأصولية في تاريخنا المعاصر لنبسط بها الأمور، ونزيد على هذه النماذج المبسطة الشارحة أن العلمانية ليست ضد الأديان، إنما هي ضد تسلط الأديان وتقف على مسافة متساوية من الجميع، فتصاب بالعمى تجاه العقيدة والمذهب والجنس.
لكن لسبب ما تم اختزال كل هذه القضايا وقضية العلمانية كقضية المواطنة في قضايا مثل ممارسة الجنس، بل ودعوات تشجع على ممارسة الجنس كمقياس للعلمانية والتنوير!
هذه الدعوات في بادئ الأمر لم تلفت الانتباه لكن الآن أصبحت تحتل مساحات كبيرة من الإعلام بل ومن شخصيات دائمة الحديث عن العلمانية مما يجعلنا نتفكر فعلا في ملابسات ظهور مثل هذه الدعوات، وبمعنى أحرى، هل هذا التسفيه من قبيل المصادفة البحتة؟!
وبالرغم أن الموضوع ليس شخصيًا إلا أن تلقي دعوات لمناقشة حرية الجنس على شاشات الفضائيات سواء داخل مصر أو خارجها أصبح يثير تساؤلات ليس فقط عن إعلام الترافيك ولكن عن الرغبة في اختزال قضية العلمانية في هذا المنحى لدى الجمهور؟! وكان هذا سؤالي لأحد معدي البرامج في دولة عربية قدم لي دعوة لمناظرة سلفي في الحرية الجنسية حين نمى إلى علمه أنني أعد كتابا عن السلفية والجهادية السلفية وعلاقتها بالصحوة الإسلامية... وهي دعوات متكررة تجعلنا نتساءل ونتفكر لا ننجرف إلى حب الظهور وانتحار قضايانا على صخرة إعلام الترافيك والتداول وتحقيق أعلى نسب إعلانات وتحقيق مزيد من المتابعات في العالم الافتراضي.
يبدو أن هناك خلط كبير في المصطلحات، فحرية الجسد تقع في إطار الحقوق الشخصية ليس في قضية تعريف العلمانية.
بالتأكيد أن البلاد الأصولية يواجه مواطنيها مشكلة في ممارسة تلك الحقوق الشخصية لكن حقيقة المشكلة تظل في اختزال قضية الحرية في هذا المنظور الضيق، كما أن هذا المنظور ومن يتبناه يوجه سهامه للأصولية دون التطرق للسلطة التي ترعى تلك الأصوليات وتكبت الحريات الشخصية، ونتساءل هنا لماذا تظهر دعوات يتبناها بعض الأشخاص لممارسة الجنس على سبيل مواجهة الأصولية بينما ذات الأصوات لا تتحدث عن حرية الصحافة في مصر التي احتلت المركز رقم 161 في تقرير عالمي، فهل هناك حرية جنس بدون حرية رأي!!!
العلمانية لا تشجع الجنس ولا تمنعه لأنه لا علاقة للعلمانية بممارسة الجنس أو كيفية ممارسته من أساسه ولا حتى أوضاع ممارسته! يبدو أن أزمة العقل العربي مع الجنس لم تنل فقط من الأصوليين بل نالت من بعض العلمانيين كذلك.
هذا المقال لا ينكر الحق في التصرف في الجسد، لكن حاول فك الاشتباك – معرفيًا – بين بعض المصطلحات والمغالطات الشائعة، فلا علاقة للعلمانية – فلسفيًا – بتباهي الرجال بممارسة نساء عائلاتهم للجنس، لأنه من المفترض أساسا ألا نروج لمباركة الذكور أو إنكارهم لتصرف النساء في أجسادهن.