"لم تسر الرياح بما تشتهي السفن” تلك كانت الجملة الأولى في كتاب "ما بعد العولمة.. صناعة الإعلام وتحول السلطة" للدكتور خالد محمد غازي، وتحمل الجملة في طياتها نعيًا مضمرًا للعولمة، فما دمنا في مرحلة ما بعد العولمة فهذا يعني أنها قامت وانتهت، وأصبحنا الآن في مرحلة ما بعد العولمة، وسبب عمرها القصير نسبياً أنها فشلت في أن ترسخ لمفاهيمها وما تبشر به من أفكار، فمن بشروا بالعولمة صدمهم عدم تحقق المشترك البشري الذي يلغي الفواصل بين الشعوب والقوميات، بل شهد العالم العكس إذ انفجرت الإثنيات على امتداد القارات، ودخل العالم إلى مرحلة من الحروب يمكن تسميتها حروب الهويات والطوائف.
لذلك ليس غريبا أن يكون حديث المفكرين العالميين فى الوقت الراهن عن نهاية العولمة، أو عن ما بعد العولمة، لذا يقول الكاتب: "لقد انتهى عصر الأيديولوجيا ليبدأ عصر السؤال” مرجعًا انتهاء الأيديولوجيا إلى عجزها عن ملاحقة التطور التقني، الذي يسابق تطور النظريات.
• عولمة الإعلام أم إعلام العولمة؟
يرى د. غازي أن العولمة تمثل الحقبة السلطوية الثالثة فهي تتلو حقبتي الكنيسة والدولة الليبرالية، ذلك على المستوى التكويني .. أما على المستوى الأفقي فثمة عوالم ثلاثة لكل منها مركز استقطابه وهي العالم القديم بتصوراته الغيبية وأصولياته الدينية، والعالم الحديث بنزعته العلمانية ثم العولمة، وهذا ما يطلق عليه المؤلف "ثالوث الأصولية والعالمية والعولمة"، ويناقشها الكتاب باعتبارها مراحل متعاقبة تفضي كل مرحلة إلى الأخرى بينما واقع الأمر أنها متجاورة وليست متعاقبة، فقد استعادت الأصوليات سطوتها وعلا صوتها كي تواجه مزاعم العلمنة ودعاوى العولمة.
وينطلق الكتاب من مناقشة الأفكار إلى طرح السؤال الملغز "هل تأثر الإعلام بالعولمة أم أن العولمة نفسها انعكاس لظاهرة الإعلام العالمي؟" وهو سؤال يبحث في جوهر العلاقة بين العولمة وصناعة الإعلام، وينطلق من حقيقة أن عولمة الأنشطة الإعلامية تمثل أهم تطور حدث في الربع الأخير من القرن العشرين منتقلًا إلى حقيقة أخرى تكاد تناقضها فما تحقق فعلًا هو عولمة للرسالة الإعلامية بفعل التساقط المتوالي لكل الحواجز، وهي ظاهرة تقنية أكثر من كونها ظاهرة سياسية أو ثقافية، كما أن درجات استجابة الأنظمة الإعلامية الوطنية للمتغيرات التي فرضتها العولمة متفاوتة إلى حد كبير.
هذا إضافة إلى تعاظم الدور الحيوي لوسائل الإعلام في ظل تنامي العولمة الإعلامية والتي من أبرز معالمها الفضائيات والصحف الإليكترونية ومواقع البث الإخباري، تلك الوسائل التى أثبتت قدرة كبيرة على التأثير في كافة مناحي الحياة.
ويشير الكاتب هنا إلى نقطة بالغة الأهمية ترتبط بحرية الإعلام العربي، فهل تتيح له العولمة فرصة الإفلات من تكميم السلطة؟ وهل تحرره من قبضة الدولة تحررًا حقيقيا أم يوقعه في سيطرة قبضة أعتى وأخطر؟ ويشير الكتاب إلى أن العولمة هي نمط معين من الحياة، وأن أداتها الأساسية هي الشركات متعددة الجنسيات، ويضيف أن إدراكنا لذلك يوضح أن تصوير العولمة على أنها عملية تحرر هو وهم أو محض خرافة.
• هدم الأيديولوجيات
في الفصل المعنون بـ "الاستعمار الالكتروني" يقرر الكاتب أن شبكة الإنترنت كانت المعول الذي هدم الأيديولوجيات، وذلك لدورها في الثورة المعلوماتية، فما أحدثته من تطور في تكنولوجيا المعلومات انعكس على وسائل الاتصال فتغيرت قدراتها وخصائصها، فمثلا شاشة التليفزيون لم تعد محلية، فبفضل الأقمار الصناعية أتاحت للجالس أمامها فرصة التنقل بين محطات تلفزة من سائر أنحاء العالم، فأصبحت السماء هي أكبر وأسرع ناقل اتصالي، وتخطت وسائل الإعلام الحدود الجغرافية التي "أصبحت بالنسبة لها مثل الكثبان الرملية على شواطىء البحار، كما تخطت حواجز اللغة والعقائد، واكتسبت قدرات فائقة على التأثير في السلوك والفكر، فمن يستقبل وإن كان حرًا في استقبال ما يشاء وقتما يشاء، لكنه قد لا يدرك أن هناك في محطة الإرسال ثمة من يوجهه ويتحكم فيه وفيما يتلقى، ففي القرية العالمية ليس من يستقبل هو السيد بل من يرسل".
وبالرغم من أن وسائل الاتصال التي أفرزتها تكنولوجيا الاتصالات الحديثة تتشابه فى نواح كثيرة مع الوسائل التقليدية إلا أنها تتميز عنها بعدة خصائص وسمات منها: التفاعلية، اللا جماهيرية، اللاتزامنية، الحركية، قابلية التوصيل وقابلية التحويل وأخيرًا الشيوع والتدويل الذى أدى إلى صعوبة التفرقة بين ما هو إعلام وطنى وما هو إعلام دولي.
فما تبثه دولة ما لمواطنيها عبر المحطات المحلية أصبح متاحًا للكافة عبر العالم، ونفس الشيء يمكن قوله عن الصحف، لذا فإن اختلال الأوضاع المتعلقة بالتبعية الإعلامية قد زادت لصالح دول الشمال وخصوصا الولايات المتحدة الأميركية، مما يثير أسئلة شتى حول إمكانية التغيير ووسائل العمل الواجب اتباعها لدعم وتطوير الإعلام التنموي، والحد من مظاهر التبعية وسبل مواجهة الاستعمار الإعلامي.
• حروب العولمة
اعتبر المبشرون بالعولمة أن تواصل البشر مع بعضهم البعض كاف لإحداث التعارف اللازم لاستبعاد خيار الحرب من قاموس العلاقات الانسانية، لكن ماحدث هو العكس تمامًا، فحروب العولمة أكثر إصابة وتهديدًا للبشر، فحروب ما قبل العولمة كانت تنشب بين دول متجاورة جغرافيا بسبب التنازع على الأراضى والموارد الطبيعية، لكن حروب العولمة تؤدى إلى تفكيك الدول وتحويل شعوب بأكملها إلى لاجئين.
كما أن الصراعات التي هي أساس الحروب مازالت قائمة بل متفاقمة فى صلب النظام العالمي الجديد، فمعطيات العولمة وكما دعمت الاتصال بين الشعوب دعمت كذلك القوة العسكرية العابرة للقارات، ووفرت لها من الإمكانيات ما لم يسبق توافره لأى قوى مسلحة سابقة، مما أتاح لدولة عظمى مثل الولايات المتحدة أن تتدخل في مناطق جغرافية بعيدة عنها، فتدعم ثورات وتسقط أنظمة بل وتفكك دول قائمة وكانت متماسكة لقرون.
ولا ينتهي الكتاب قبل أن يتطرق للوضع العربي الراهن ومقارنته بوضع إسرائيل، فمع اتساع الفجوة بين الشمال والجنوب، ومع طوفان العولمة الساحق أصبحت إسرائيل هي الأكثر قدرة على فتح الأبواب لشبكات المال والأعمال والإعلام العالمي أكثر من أية جهة أخرى في المنطقة. (خدمة وكالة الصحافة العربية).