-->
مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008 مجلة اتحاد كتاب الإنترنت المغاربة - 8 أكتوبر 2008


الآراء والأفكار الواردة في المقالات والأخبار تعبر عن رأي أصحابها وليس إدارة الموقع
recent

كولوار المجلة

recent
recent
جاري التحميل ...

أجساد تقاوم عنف الشمس ـ خالد النافعي


دخان حارق يتصاعد مني،فيختفي في الهواء.حوالي نصف ساعة وأنا أركض بجسد أثقله التعب. توقفت،تمشيت بجانب أشجار البلوط المنتشرة في المكان، محاولا استرجاع أنفاسي. لكن لهات جريح يمنعني من المواصلة.عندما أتذكر بأن الطريق لازالت طويلة أمامي،حينها أشعر بأن وصولي في الموعد، مجرد وهم يؤنسني في الطريق. ماهو المبرر الذي سأعطيه للمدير؟، هذا السؤال كان كالدبوس يؤلمني في رأسي. شاهدتني في الذاكرة غادرت مدينة الضباب الكثيف (القنيطرة)، ووصلت إلى مدينة سلا في الوقت المناسب. المدينة المعروفة بجنون سكانها بعد صلاة العصر،لكني واحد من سكانها،ربما لذلك أنا مجنون!
عدت للركض من جديد. التعب نال مني  هذه المرة،لكني كنت مثل فارس مغوار يرفض اسقاط سيفه.التعب جعل العرق يتفصد بدخانه الساخن من مسام جبهتي، ينزل ببطء، يمر بين شعيرات لحيتي وصولا إلى عنقي،دخانه جعل ملامحي الأنيقة شبه ذابلة. إن الإنسان يبدو ممسوخا عندما تشويه الشمس، هكذا قلت مع نفسي. وقفت تانيا وثالثا ورابعـ... وخـ... بسبب العياء.أمام باب المحطة بزقت خيوطا من ريق بسبب العطش. دخلت مسرعا ،أخدت التذكرة من فتاة لم أتاملها جيدا، لكني التقطت صورة ثغرها، الذي كان مطليا بأحمر الشفاه.صوت القطار لم ألتقطه بعد. شعرت بجوع شديد يمخض جسدي،لذلك جلست فوق حافة الطوار، فمن شدة الجوع لم أعد أقوى على الوقوف. كانت مواكب المسافرين ضجة حزينة تتوزع في المدى،بين الفينة والأخرى يتكسر حاجز الصمت ببسمة طفل طائشة، يبحث عن ثدي أمه وراء جلبابها البنفسجي اللون. الأم كانت تحاول حماية ثديها من الظهور خشية من العيونالزائغة،المتلهفة.
-         موحى ابتعد، لقد كبرت عن هذا.
تقولها وهي تشعر بالخجل من العيون المتفرجة على المشهد.يتوسل إليها بدموع التماسيح.  تصرخ في وجهه بصوت خجول. وجها كان موردا، في وسط جبهتها المهترئة وشم أمازيغي،عرفت من خلاله ومن خلال لكنتها أنها أمازيغية . علامات الهشاشة كانت بادية عليها. بل جميعنا في المحطة كنا نشترك الهشاشة،.الكل ينسج الكلام مع العائلة أو مع الأصدقاء إلا أنا، وجدتني وحدي،لم أكن أبالي بالعابرين على عزلتي،كنت فقط أحاول تحمل رصاصات العياء الموجهة إلي.
كنت كالعائد من الميدان
أضمد جروحي
أزيل ما بداخلي من حطام،
ضربات الزمن الغبي
جعلت جسدي كالرخام.
كنت اعانق النسيان
مُسكني ... بسمة مسروقة.
من زهر أمل، للحظ عطشان.
 بعد أقل من 15دقيقة من الانتظار، انطلق القطار، جلست في المقطورة الرابعة، لم أبالي بمن يجلس أمامي،ولا بمن يجلس خلفي، فكرة ايقافي عن العمل هيالشيء الوحيد الذي كنت أراه،لا لشيء فقط لأنها ستخلف  شرخا في أيامي المقبلة. أراقب ساعتي اليدوية بين الفينة والأخرى. كان القطار يأكل الطريق، بشراهة. بسرعة لا سرعة مثلها.
 بعد عشرين دقيقة عادت الروح إلي. أخيرا وصلت في الوقت المناسب. خرجت مندفعا من باب المقطورة،و أنا أستنشق رائحة الهواء الربيعي، للتخلص من رواسب التعب. أخدت أول سيارة أجرة صادفتها أمامي...نزلت،ثم ركضت بسرعة، ووقفت  تانيا وثالثا ورابعـ... وخـ... ،دخلت محاولا تجنب عيون المدير، حتى لا يضع بين يدي رزمة من المهام الطارئة،بسمة منه جعلتني أتنفس الصعداء،أخيرا تخلصت من الدبوس المؤلم.قامة المدير الطويلة تذكرني بقوم عاد. كالعادة قبعته السوداء لا تغادر رأسه حتى اعشوشب شعره الخفيف تحثها.
دق الجرس معلنا انتهاء ساعات العمل. في ساحة المؤسسة وجدت أستاد التربية الإسلامية ينتظرني،أشعر بأن عناقه لي  كاف لتمرير الوضوء إلي.فأنا الذي أفقد الوضوء بمجرد أداء صلاة الصبح. تمشينا نحو الطريق العمومي.الشارع كله بنايات مرصوصة فوق البلاط بانتظام، جدارها مطلي باللون الأحمر و اللون الأصفر،كنا أجسادا تقاوم عنف الشمس،.التي تشوي الوجوه،بأشعتها الجهنمية.طول المسير وأنا أنصت إليه، كطفل يستمع ببراءة لقصص الدادة،كلما تحدثُ كالعادة، يناديني بالعالموما أنا بعالم، فأتذكر أن ذاك يوم وجدني داخل حجرة الدرس أنفض عني غبار الطباشير وأستعد للاسترخاء فوق كرسي المكتب الخشبي،.دخل عليا مبتهجا كالعادة وهو يحمل بين كفه كتاب الله.
-         بسم الله،سأعرض عليك سورة (يس) لتُصحح لي بعض الأخطاء.
-         هده السورة لم احفظها بعد.
قلتها وأنا أخفي كسلي في حفظ القرآن.استغرب وهو يتأملني
-         عالم مثلك وغير حافظ لهذه السورة!!
أعطيته مبررا،رغم أني شعرت بخجل يترسب في وجهي، منذ ذلك الحادث وأنا أظنه  سيسحب مني صفة العالم،لكنه لازال يناديني بالعالم وما أنا بعالم.كنت أنصت إليه بجد،وأتأمل تقاسيم وجهه التي انحنت بثقل الزمن،صدق محمد شكري حينما قال:(لعبة الزمن أقوى منا)،بالفعل الزمن يسرق  منا حياتنا ويشوه وجوهنا،ويجعلنا نلبس ملامح أكبر من سننا.كنت أرى قطرات العرق تنتشر في جبهته الملساء، فهو يعول الأفواه، ويعاني من داء السكري ، ما يجعل أجرته غير كافية لسد جل مصاريف الحياة, ولكن رغم ذلك ملامحه تضحك بتلقائية. كان كلما انفرج فمه المختبئ تحث شنبه الصغير، ذكرني بأبي الطيب الذي لا تغادر البسمة فمه.وصلنا  وهسيس صوته أبى أن يغادر المكان. ضمني إليه بحب، ثم غادر نحو طريقه،وغادر العالم أيضا في انتظار لقاء آخر...



خالد النافعي
سلا 2018

عن الكاتب

ABDOUHAKKI




الفصـــل 25 من دستورالمملكة : حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها. حرية الإبداع والنشر والعرض في المجالات الأدبية والفنية والبحت العلمي,والتقني مضمونة.

إتصل بنا